قضايا وآراء

تحليل المستقبل بدلا من تحليلات الماضي

1300x600
تعد الساحة العربية فقيرة إلى حد كبير في أفلام ومسلسلات الخيال العلمي. وأحد التفسيرات الرائجة أن المؤلفين العرب مفتونون كثيرا بالماضي على حساب المستقبل، وهو ما يفسر اللجوء كثيرا للقراءة التاريخية على حساب القراءة المستقبلية، وانتشار المسلسل والفيلم التاريخي على حساب الفيلم والمسلسل المتنبئ بأحداث مستقبلية، حتى إن استدعاء القراءة التاريخية للأحداث والأشخاص والأفكار يدور في فلك الإدانة والمحاكمة واستنساخ الصراعات القديمة أكثر من استخلاص الدروس والعبر.

لقد أصبح التعامل مع المستقبل علما مستقبلا بذاته، يتقاطع مع كثير من العلوم حاليا في كثير من الدول. فعلى سبيل المثال، أنشأت جامعة إدنبرة الأسكتلندية مؤخرا معهدا متكاملا للتعامل مع المستقبليات في مجلات الصحة والإبداع والعدالة والتعليم. فلم يعد الأمر منصبا على مستقبل التقنيات والتطورات التكنولوجية، وأصبح هناك إدراك بأن علم المستقبل لا بد أن يشمل كافة مناحي العلوم والمجالات المختلفة بشكل متخصص ودقيق، ورصد التحولات المتوقعة لدراسة كيفية التعامل والتكيف معها.
هناك إفراط في تحليلات الماضي في العالم العربي، خاصة فيما يتعلق بمستقبله السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وهي تحليلات تفترض أن الأوضاع ستسير على خط مستقيم. وتكتسي معظم التكهنات طابع التفاؤل أو التشاؤم من دون الاستناد على معلومات ودراسات وافية، أو على الأقل تطبيق إحدى النظريات الشهيرة في كل مجال

هناك إفراط في تحليلات الماضي في العالم العربي، خاصة فيما يتعلق بمستقبله السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وهي تحليلات تفترض أن الأوضاع ستسير على خط مستقيم. وتكتسي معظم التكهنات طابع التفاؤل أو التشاؤم من دون الاستناد على معلومات ودراسات وافية، أو على الأقل تطبيق إحدى النظريات الشهيرة في كل مجال من المجالات لاستقراء الأمور.

وإذا كانت مشكلة حرية تداول المعلومات لا تزال قائمة في معظم الدول العربية، فقد كفت مصادر البيانات المفتوحة مؤنة اللهث وراء معلومة هنا أو هناك. فقد أصبح هناك إدراك عالمي بأهمية إتاحة المعلومات من مصادر مفتوحة لفائدة البشرية. ويمكن الاستعانة بهذه المصادر من أجل توفير قراءات سياسية واقتصادية واجتماعية للدول والمجتمعات العربية أكثر واقعة؛ منها على سبيل المثال لا الحصر مؤسسة "البارومتر العربي" التي تساهم فيها عدة جهات عربية وغربية ما بين ما هو حكومي وما هو أهلي، وتنظم استطلاعات للرأي وبيانات ذات مصادر مفتوحة. ويصف نفسه بأنه أكبر مستودع للبيانات المتاحة في متناول العامة حول آراء المواطنين في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

وينبغي أن يتحرر التحليل المستقبلي من الاستقطاب الأيديولوجي، فقد ارتبط التفكير التقدمي والمستقبلي بتيارات أيديولوجية بعينها وارتباط التاريخ والماضي بتيارات أخرى في صراع معها. وهي أزمة ينبغي تجاوزها إذا أردنا بناء مستقبل حقيقي، أو على الأقل الاستعداد والتكيف مع هو آتِ من تغيرات ستحتم علينا التعامل معها سواء شئنا أم أبينا.
ينبغي أن يتحرر التحليل المستقبلي من الاستقطاب الأيديولوجي، فقد ارتبط التفكير التقدمي والمستقبلي بتيارات أيديولوجية بعينها وارتباط التاريخ والماضي بتيارات أخرى في صراع معها. وهي أزمة ينبغي تجاوزها إذا أردنا بناء مستقبل حقيقي، أو على الأقل الاستعداد والتكيف مع هو آتِ

ذات مرة سأل نجل صديق لي على مشارف دخول الجامعة؛ والده عن أسماء بعض السياسيين المصريين المرتبطين بحقبة الثورة وعام 2011. ذهل الأب من جهل الابن بهذه الأسماء رغم أنه مطلع وقارئ. حاول أن يشرح له خلفيات عن الأشخاص والأحداث، لم يستطع ابنه أن يهضم كل هذه التعقيدات في المواقف وطرح أسئلة أخرى تتعلق بما هو آت. وأخيرا أدرك الصديق أن ابنه حينها كان في الصف الثالث الابتدائي ولم يتابع كل ما نراه اليوم وكأنه أحداث الأمس، وأيقن وقتها أن الزمن قد جرى سريعا في غفلة من الجميع مع تسارع الأحداث، وأن قسما كبيرا من نقاشنا السياسي قد أصبح نقاشا تاريخيا أكثر منه نقاش سياسي حقيقي.

لا يعني التطلع والتخطيط للمستقبل وفقا لمعطيات المستقبل وظروفه إهمال الماضي والتاريخ، ولكن يعني أن تتم قراءة الماضي وفقا لمنهجية التاريخ وليس منهجية التحليل الآني واللحظي. فحين نناقش المبادئ نحافظ عليها ونطورها، بدلا من أن نتقاتل حول الأشخاص والأحداث.

twitter.com/hanybeshr
الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع