بلوحات رخامية فنيّة عتيقة وألوان لافتة، تجذب كنيسة برفيريوس أو ما يعرف محليا في غزة بكنيسة "الروم الأرثوذكس"، عيون المارة، وتصطف حجارتها الرمليّة التي يزيد عمرها عن 1596 سنة في شكل هندسي دائري داخل الكنيسة.
وعند دخولك من الباب الملاصق لمسجد كاتب ولاية التاريخي، ترى اسم القديس "برفيريوس" يتصدر بهو الدخول، لواحدة تعتبر ثالث أقدم كنيسة في العالم، التي كان لها الدور الرئيسي في دخول سكان غزة المسيحية، بعد أن كانوا قد اعتنقوا الوثنية.
تخطف كنيسة برفيريوس القديمة، التي يرتكز سقفها على أعمدة رخامية ضخمة، أنظار الزوار بجمال تصاميمها وبنائها، والأيقونات التي تزين الجدران بالرموز المسيحية التي تروي حكاية المسيح عيسى منذ الميلاد.
تتربع كنيسة القديس برفيريوس، في مدينة غزة العتيقة وتحديدا في حي الزيتون، أحد أقدم أحيائها وأكبرها من حيث المساحة، وقد بنيت سنة "425 م" بمسعى من "القديس بيرفيريوس"، وقد سُميت باسمه، وهي تحوي ضريحه الآن. بحسب الدكتور غسان الشامي، أستاذ التاريخ في الجامعات الفلسطينية.
وبالرغم من صِغر مساحة قطاع غزة، التي لا تتجاوز 360 كيلومترا مربعا، إلا أنه يعتبر ملتقى الحضارات، وممر الحقب الزمنية، والمعارك، والحملات؛ لهذا، فهو غني بالآثار الإسلامية والمسيحية.
يقول د.الشامي لـ "عربي21": "أُطلقت على الكنيسة عدة أسماء، حيث سميت الكنيسة في بداية الوقت باسم (كنيسة أفذوكسيا) نسبة إلى الملكة، حتى توفي القديس برفيريوس عام 420م، وتمت تسميتها باسم كنيسة القديس برفيريوس، كذلك أطلق عليها (كنيسة المقبرة)؛ إذ تحيط بها مقبرة لأموات المسيحيين، وأصبحت برفيريوس الكنيسة الأم في قطاع غزة، بعد أن تحولت الكنيسة الأم الأولى (مار يوحنا) إلى الجامع العمري الكبير بعد الفتوحات الإسلامية".
ويضف: "تقسم الكنيسة التي بنيت من الخارج على هيئة سفينة ترمز إلى طوق النجاة إلى قسمين من الداخل: الأول هو الرواق أو الصالة الداخلية التي تتسع إلى نحو 400 حتى 500 من المصلين، بينما يتمثل القسم الثاني في الهيكل (قدس الأقداس)، وهو مكان وجود المذبح أو الإنجيل المقدس، ويخصص للكاهن من أجل قضاء الطقوس الدينية، ويمنع دخول النساء له لأي سبب من الأسباب، بينما يدخله الرجال للخدمة والضروريات فقط".
أما الناحية الغربية للرواق، فتضم "جرن المعمودية" وهو طقس ديني لتعميد الأطفال، كما تم تعميد السيد المسيح في نهر الأردن، ويعتبر سرا من أسرار الكنيسة السبعة، لتطهيرهم من خطيئة آدم وحواء، ولإحلال الروح القدس على الطفل، وفق قول الشامي.
وأوضح أستاذ التاريخ أنه لا يوجد بالكنيسة سوى عمودين في الجدارين الشمالي والجنوبي، وتحمل تلك الأعمدة عقود الأقبية التي ترتكز على تيجان رخامية كورنثية الطراز، مشيرا إلى أن الهيكل يوجد في الجهة الشرقية منها، وهو دائري الشكل، مغطى بقبة نصف كروية.
وقال: "للكنيسة ثلاثة مداخل، هي: المدخل الغربي؛ وهو المدخل الرئيس للكنيسة، والمدخل الشمالي، إضافة إلى المدخل الجنوبي الذي فُتح حديثا، وهو يؤدي إلى بلكون علوي ليتسع لأكبر عدد من المصلين".
ويضيف: "أما النص التأسيسي للكنيسة، فهو يتصدر مدخلها الغربي، وكُتب على لوح رخامي باللغة اليونانية القديمة في ثمانية سطور، وقد تُرجم للغة العربية في ثلاثة سطور جاء فيها: السطر الأول: "بسم الله الحي الواحد الإله القدوس، ابتدأ عمارة الكنيسة بسعي من الأب بيرفيريوس مطران غزة سنة 425م بأيام الملك أركاديوس".
والسطر الثاني: "وقد جرى قصارتها أيام البطريرك الأورشليمي كرالمبوس، بمسعى الأب فيلموس بمناظرة المهندس بلاشوني بشاريوس".
السطر الثالث: "الكارين، مصروفها من القيامة المقدسة ومن بعض مسيحيي غزة سنة 1856 مسيحية بشهر آذار".
وأمام عمود من الرخام لا يزيد ارتفاعه عن المتر الواحد، يوضع على حافته وعاء مستطيل من الرمل، تغرس فيه شمعتان، يقف كامل عيّاد مدير العلاقات العامة في الكنيسة ويضيء شمعة ثالثة ليبدأ طقوس صلاته.
يقول كامل عياد مدير العلاقات العامة والإعلام في الكنيسة لـ "عربي21": "تنبع أهمية عمل الكنيسة كمؤسسة دينية تفتح أبوابها لاستقبال المصلين أمام الصلوات، التي من أهمها صلاة الأحد، يوم الأحد صباحا، وصلوات الخطبة والزواج، كذلك صلاة الموتى وصلوات الأعياد.
كامل عياد مدير العلاقات العامة والإعلام في الكنيسة
ويضيف: "للكنيسة دور بارز في التربية المسيحية الحسنة، فهي تعمل على إطلاع الناشئة على تعاليم الإنجيل المقدس (الكتاب المقدس )، وتعاليم السيد المسيح وسيرته على الأرض".
وأكد أن دور الكنيسة لا يقتصر على الجانب الديني، بل يتعداه إلى خلق شباب واعٍ، محب للوطن والمجتمع، من خلال بث روح الوطنية لدى روادها، خاصة أنها كنيسة شرقية أصيلة منذ عهد المسيح حتى يومنا هذا.
ومن جهتها، تصف الباحثة في التاريخ الآثار إسلام حبوش، الكنيسة من الداخل وتقول: "زُينت الكنيسة من الداخل بوحدات زخرفية، مثلت مناظر ورموز دينية مسيحية أو شخصيات دينية كان لها دور بارز في تاريخ الديانة المسيحية".
وتقول حبوش لـ "عربي21": "أما مداخل بعض غرف الكنيسة، فقد زينت بحجارة منقوشة بوحدات زخرفية هندسية ونباتية متنوعة، إضافة إلى حروف من اللغة اللاتينية تخللها رسم للصليب".
وتضيف: "سقف الكنيسة، يتزين بالأيقونات، التي يروي جزء منها حكاية النبي موسى والعهد القديم، بينما يروي الجزء الآخر حكاية العهد الجديد والسيد المسيح وصلبه، وقيامته، وتلاميذ المسيح، وبشارة المسيح، وموت العذراء مريم، وصعود المسيح إلى السماء، بينما تحتضن الجدران أيقونات صغيرة وكبيرة لتزيين الكنيسة، تقص حكايات بعض شخصيات القديسين كالقديسة هيلانا وابنها قسطنطين.
وعن القديس "برفيريوس" الذي حملت الكنيسة اسمه، تسرد حبوش قصته قائلة إنه ولد في مدينة تسالونيك في اليونان سنة 347م بعد الميلاد، وعند بلوغه سن الثلاثين ذهب إلى مصر وعاش خمس سنوات ناسكا، ومن ثم ذهب إلى القدس وزار الأماكن المقدسة فيها.
وأوضحت أنه سكن في البرية المجاورة لنهر الأردن ناسكا حتى عام 382م، حيث مرض فجيء به إلى مدينة القدس، وأقيمت صلاة خاصة من أجل القديس وشفي برفيريوس.
وفي سنة 392م، سمي كاهنا وعمل خوريا في كنيسة القيامة، وبعد ثلاث سنوات أي في 18/3/395م سمي مطرانا لمدينة غزة؛ حيث كان المسيحيون في مدينة غزة قلة، وكانوا يشهدون للمطران بالقداسة وحنكة الوعظ، فاختير لتعليم الناس ولتأسيس كنيسة المسيح في غزة. حسب حبوش.
وأوضحت أنه في 21/3/395م نزل إلى غزة برفقة الشماس مرقص، الذي كتب تاريخ حياة هذا القديس لأنه كان معه طيلة أيام حياته في مدينة غزة، ولأن معظم الناس في غزة في ذلك الوقت كانوا وثنيين، فقد رفضوا استقبال القديس برفيريوس، ووضعوا الحجارة والقاذورات في الشارع المؤدي إلى مدينة غزة.
وأكدت أنه بعد سنوات من خضوع غزة للحكم الوثني واضطهاد المسيحيين في غزة، تدخل "الإمبراطور أركاديوس" الذي كان يحكم الشرق من مقره في القسطنطينية (إسطنبول) بعد زيارة القديس برفيريوس له، فأصدر الإمبراطور أوامره بإغلاق أماكن عبادة الأوثان وهدمها في المدينة حتى لا يبقى لها أثر.
وقالت حبوش: "لما رجع المطران برفيريوس مع مطران كيساريا، دخلوا المدينة في احتفال عظيم وأقيمت الصلوات وهدمت أماكن عبادة الأوثان، وبعثت الإمبراطورة المال والمهندسين والحجارة من المرمر عن طريق أنطاكيا مع المهندس روفيتوس، ووضع القديس برفيريوس حجر الأساس للكنيسة التي استغرق بناؤها خمس سنوات، وصار تدشينها في 14/4/407 م وكان اسمها الأول أفظوكسيياني نسبة للإمبراطورة".
وأضافت: "بعد أن توفي القديس برفيريوس عن عمر 73 عاما بتاريخ 26/2/420م الموافق 10/3/420م غربي، دفن في الكنيسة وما يزال قبره فيها حتى اليوم، وصار اسم الكنيسة (كنيسة القديس برفيريوس). وفي اليوم العاشر من الشهر الثالث من كل عام، يحتفل المسيحيون في غزة بعيد هذا القديس".
مطار "قلنديا" أو "القدس" مكان ساحر في الذاكرة الفلسطينية
مسجد الظفر دمري الأثري منارة غزة القديمة وأول محطة للزائرين
"بيت عائلة السقا" التاريخي.. أول منتدى اقتصادي عرفته فلسطين