يبدو أن شبح
الانقلابات العسكرية والقضاء على آمال الاستقرار والتنمية قد ظهر مرة أخرى، وشجعه عدم الحزم في مواجهة الظاهرة. فقد وقعت انقلابات في سبع دول أفريقية على الأقل خلال عقد واحد، فانتكست المحاولات
الديمقراطية. وساعد على ذلك أن الرئيس المنتخب يرعى الفساد وطمع في السلطة، وما دام الأمر خروجا على القانون فإن الذي يملك السلاح يجد نفسه أولى بالسلطة وخيراتها، فيجازف بالانقلاب حتى رغم إدانة لندن وباريس وواشنطن؛ العراب الأصلي للانقلابات.
وقع في
غينيا في منتصف الأسبوع الأول من أيلول/ سبتمبر 2021 انقلاب عسكري ينتمي إلى الانقلابات العسكرية الجديدة التي تعلمت دروس الماضي. فالمعلوم أن الانقلابات العسكرية في
أفريقيا بعد أمريكا اللاتينية كانت ظاهرة مؤرقة، ولذلك اضطرت منظمة الوحدة الأفريقية أن تقرر عدم الاعتراف بأي نظام تفرزه هذه الانقلابات ثم خلفها الاتحاد الأفريقي.
وقد تفاقمت آثار الانقلابات العسكرية في ذلك الوقت وقضت على الاستقرار السياسي، حتى أن بعض الدول وقعت فيها انقلابات كثيرة، مثل السودان ونيجيريا وبوروندي وغيرها.
كان واضحا أن هذه الانقلابات العسكرية سببها أن الجيوش الأفريقية نشأت إما في عهد الاستعمار أو في إطار حركات التحرر الوطني، وغلب عليها الطابع القبلي والعرقي.
فانقلابات بوروندي كان يقوم بها عادة ضباط التوتسي ضد بعضهم، ثم ضد الرئيس الهوتو، وأشهرهم (الذي عاصرته) كان نداداي. ولكن معظم هذه الانقلابات كانت سلمية في بوروندي قاصرة على تغيير الحكم في يد التوتسي أيضا، ما عدا الانقلاب ضد نداداي من الهوتو، وهذا هو السبب في دمويته، فقد أطاح به الجيش المشكل من التوتسي حتى يضع حدا لطموح شباب الهوتو في السلطة في ذلك الوقت.
وكان نداداي قد نجح في انتخابات حرة بأغلبية كاسحة ضد الرئيس السابق العسكري من التوتسي، الجنرال بويويا الذي قاد انقلابا مدعوما من واشنطن وباريس عام 1989 لإعادة بوروندي إلى التحالف الغربي ضد الحكم الشيوعي، ثم قاد انقلابا آخر داخل الجيش التوتسي عام 1996، وكان جديرا بالتأييد لأنه وضع بوروندي على اعتاب التسوية السياسية التي تنعم بها الآن.
لوحظ أن الانقلابات الأفريقية كانت دائما توقف العمل بالدستور وتحل البرلمان وتشكل مجلس قيادة الثورة، وكأن الانقلاب قد تحول إلى ثورة.
وهذا يذكرني بأغاني عبد الحليم حافظ التي شكلت وجدان جيلي وهو يصدح: "انتصرنا يوم ما هب الجيش وثار يوم ما أشعلناها ثورة نور ونار". وكنا وقتها لاندقق في المصطلحات ونطرب للأغنية دون التفكير في معانيها، وإلا فسدت علينا متعة الطرب.
لكن انقلاب غينيا ليس عنصريا أو قبليا أو طائفيا، فأكد قائد الانقلاب أن الرئيس كوندي المنتخب خرج على الدستور وطمع في السلطة، وأنه جاء ليقف مع الشعب لاستعادة الديمقراطية. وكان الرئيس بإصراره على تجاوز الدستور قد أعطى الفرصة للانقلاب، وتلك ذريعة لأن عدم احترام الدستور من جانب الرئيس وهو من أقسم على حمايته قد أسقط هيبة الرئيس وشرعيته.
ولكن تصريحات قائد الانقلاب كشفت عن نغمة مألوفة في حياتنا المعاصرة، وهي فشل السياسيين في إدارة البلاد، وهي نفس النغمة التي رددها ضباط يوليو عندنا؛ مع ملاحظة أنه في قاموسهم تعني كلمة السياسيين المدنيين، فكان الانقلاب والحكم العسكري يوقف فشل المدنيين ولو بشكل مؤقت.
والانقلاب معناه تغيير نظام الحكم بغير الطريق الذي نص عليه الدستور، وكأن خروج الرئيس على الدستور يبيح خروج الجيش عليه من باب أولى؛ ولكن لهدف نبيل وهو الانتقام ممن استخف بالدستور وإعادة الدستور إلى مكانه. ولكن انقلاب غينيا لم يتعهد بالعودة إلى الدستور والانتخابات.
فالانقلاب هو تغيير نظام الحكم، أما الطريقة أو الأداة التي تستخدم في هذا التغيير فهي في أغلب الحالات هي القوات المسلحة. وهناك أدوات أخرى في نظرية الانقلابات، منها الغزو الأجنبي، ومنها استخدام المرتزقة، ومنها انقلاب القصر، كما حدث في روسيا بين بوتين ويلتسين، لكن تغيير النظام في 70 في المئة من الحالات كان يتم باستخدام الجيش.
والحالة الوحيدة التي صدق فيها قائد الانقلاب كانت حالة المغفور له الجنرال السوداني سوار الذهب؛ الذي أطاح بجعفر نميري وأجرى انتخابات وسلم السلطة للصادق المهدي الذي انقلب عليه البشير عام 1989.
وقد جرت العادة أن هذه الانقلابات يرتبها الخارج، ولم يحدث أن وقع انقلاب داخلي محض، وكانت هذه الانقلابات عادة انتقاما من بعض القوى من خصومها، ولكنها تعكس هشاشة الوضع السياسي وعدم انضباط وعدم مهنية رجال القوات المسلحة في الدولة.
ونظرا لتفشي سرطان الانقلابات العسكرية في أفريقيا، فقد نص ميثاق الاتحاد الأفريقي صراحة على عدم الاعتراف بنتائج تغيير الحكم بغير الطريق الدستوري. ونظرا لبشاعة مصطلح الانقلاب العسكري وما يشيعه في النفس من اضطراب، فقد تفادى الميثاق إيراد المصطلح تماما، كما تفادى ميثاق الأمم المتحدة كلمة الحرب؛ تشاؤما مما أحدثته حربان عالميتان من دمار لأوروبا والبشرية.
وقد نجحت سياسة الاتحاد الأفريقي بعض الوقت، فضلا عن تراجع أسباب الانقلابات، خاصة وأن العالم كله لا يستسيغ هذه الانقلابات، ولكن الاتحاد لم يكن حاسما تجاه بعض الانقلابات.
ورغم أن الاتحاد واتحاد غرب أفريقيا والعالم كله قد أدانوا انقلاب كوناكري، وآخرها مطالبة مجموعة السبع (الصناعية الكبرى) في 7 أيلول/ سبتمبر 2021؛ بضرورة الإسراع بعودة الدستور في كوناكري وكذلك في تونس؛ حيث وقع فيها انقلاب سياسي قام به الرئيس التونسي مهما كان تفسيره لما حدث. إلا أن الاستخفاف بالاتحاد وبالدول الكبرى، فضلا عن سوء سلوك النخب السياسية الداخلية؛ يمكن أن يشجع على اندلاع الانقلابات وتراجع هيبة الاتحاد الأفريقي، مما يؤدي إلى تفككه.
وإذا كانت الدول الأفريقية حريصة على وقف انهيار سياسة مقاومة الانقلاب، فهي يجب أن تشكل لجنة لدراسة أسباب الانقلابات والطرق الموضوعية لتقليل عوامل وقوعها، والحزم في مواجهتها إذا وقعت، وأسباب فشل سياسات الاتحاد حتى الآن، أم أن النصوص تمثل آمالا يحبطها الواقع؟
فقد لوحظ أن الدول الكبرى خاصة فرنسا قد أدانت الانقلاب مما يوحي بأنها ليس لها مصلحة فيه، ولكن هذا الحكم سابق لأوانه.