من
درعا بدأت ثورة الشام، فكانت بحق مهد الثورة كما أُطلق عليها، ونظراً لتماسك المجتمع الحوراني نتيجة العامل العشائري والقبلي الذي يحكم المنطقة، مما أعطى ثقة لدى أهالي المحافظات السورية الأخرى بأن التحرك حقيقي وجاد، وعميق وواسع بسعة وامتداد العشائر الحورانية، لكن لم يدرْ بخلد أكثر المتشائمين أن هذه الثورة التي طالبت منذ البداية، ولا تزال بالحرية والتخلص من الاستبداد مكتوب عليها مقاتلة احتلالات متعددة، ودفع أكلاف المنطقة كلها ربما، وأن ما يطالب به الشعب السوري من التخلص من الاستبداد؛ إنما في جوهره وحقيقته هو مقاتلة عالم وقف ويقف، وربما سيقف مع عصابة طائفية، نظير خيانات قدمتها، وليس أهمها هو تدجين الشعب السوري الذي جدد ثوريته وتمرده في السنوات الماضية، مما قد يشكل تهديداً للاستبداد والاحتلال.
التماسك المجتمعي والقبلي والعشائري يتجدد مع كل نازلة تنزل بدرعا وسوريا. فعلى الرغم من تجرّع حوران السمّ في عام 2018 وقبولها المصالحة مع العصابة، فدخلت بتشكيل الفيلق الثامن الذي ضم مقاتلين سابقين من المعارضة ليتبع للقوات الروسية، وسُحبت أسلحة المعارضة الثقيلة، لكن هذا على ما يبدو أغرى القوى الاحتلالية (روسيا وإيران) ومعها النظام العميل في طلب المزيد من التنازلات، حتى كان إصرار
مليشيات الفرقة الرابعة التابعة لماهر
الأسد أخيراً على دخول درعا وأحيائها، ومعها بالطبع كل المليشيات الطائفية
الإيرانية واللبنانية والعراقية والأفغانية، الأمر الذي كان محرماً عليها بحسب اتفاق 2018 بإصرار أردني وإسرائيلي.
لكن اليوم نرى صمتاً إسرائيلياً مريباً على
اقتراب المليشيات الطائفية، وهي التي كانت ترفضه بالأمس، كما نرى صمتاً من الأردن وهو الذي كان يرفضه أيضاً، وانشغل الجميع بصفقة الغاز المصري القادمة من مصر للأردن فسوريا ولبنان، وكأن الصفقة وأنابيبها لا يمكن أن تتحقق دون تجريف المنطقة من أهالي درعا وتهجيرهم واقتلاعهم.
رضخ أهالي درعا مرة ثانية لمفاوضات المحتل الروسي الذي يقدم نفسه وسيطاً، وقبلوا بتنازلات كان منها دخول الجيش ونشره لبعض النقاط، وتسليم بعض الأسلحة، وتسوية أوضاع المطلوبين، وتهجير العشرات إلى الشمال السوري كالعادة. ولكن شهية الإجرام السوري والإيراني لم تكتفِ بذلك، فمع كل اتفاق يُطلب المزيد. أما الروسي فيتذاكى بلعب دور الأخ اللطيف، بينما الإيراني دور الأخ الشقي، وإن كان كلاهما معروفين لأهالي درعا على حقيقته، ولكن لا حيلة للأخيرة في ظل تخلي القريب والبعيد عنها؛ إلاّ التعامل مع الواقع الأليم، حتى ضنّ عليهم الجميع ببيان يتضامن معهم، باستثناء دولة قطر التي أصدرت خارجيتها بياناً تندد بالحملة الوحشية على درعا وعلى السوريين والمستمرة منذ عشر سنوات.
اليوم يضع الروسي والإيراني خمسين ألفاً من أهالي درعا، وهم يعادلون 17 ضعف سكان حي الشيخ جراح أمام التهجير، أو القبول بدخول كل المليشيات الطائفية للمدينة، ولكم أن تتخيلوا ما ستفعله مليشيات طائفية منفلتة من عقالها، منتوجها الوحيد المثقاب الكهربائي أو غير الكهربائي والاغتصاب والقتل والسحل والحرق وكل ما تفتقت عنه العقلية الإجرامية، والتي رأينا جرائمها على مدى سنوات في بغداد ودمشق وصنعاء.
اليوم درعا هي الشاهدة على الثورة منذ البداية، وهي الشاهدة على خيانات القريب والبعيد، وهي الشاهدة على خذلان الكثير للثورة السورية التي ضحت وغيرها من مناطق
سوريا بتضحيات لم يسبق أن ضحى بها شعب في فترة قصيرة كهذه، واليوم درعا شهيدة أيضاً، ولكنها كأشجار البلوط التي تأبى الموت إلاّ واقفة، ولن تموت بإذن الله، فطائر الفينيق سيخرج من الرماد، طال الزمن أم قصر، والشام التي بشر بها النبي عليه السلام لن توقفها عصابات طائفية ولا احتلالات بغيضة.
يذكرني اليوم وبالمقارنة بما يجري بدرعا؛ بما جرى ربما قريباً منه أيام التتار، حين صمدت خوارزم عشر سنوات كاملة أمام عاديات التتار، وأطلقت صيحة وصرخة النذير العريان لبغداد، عاصمة الخلافة العباسية يومها، لعلها تدعمها، أو تستعد هي نفسها قبل اقتحامها من التتار، ولكن لا من مجيب. فالخليفة قد سلّم أمور الخلافة لابن العلقمي الطائفي المتواطئ مع التتار، وحين انهارت خوارزم بعد تضحيات وبطولات عزّ نظيرها في ذلك الوقت، انهارت بغداد وانهارت مدن العالم الإسلامي وحواضره، ودفع العالم الإسلامي الثمن.
واليوم يظن البعض بزيارته للقتلة في بغداد ولقائه مع قيس الخزعلي، زعيم عصائب أهل الحق العراقية الذي تخيم مليشياته على
حدود الأردن سيوفره، وسيوفر غيره من البلدان. فالموت القادم من الشرق، والسرطان الخطير لن يدع يداً ولا رجلاً ولا جزءاً من جسم الأمة إلاّ وسيفتك به.. درعا اليوم هي خوارزم الأمس، والعكس صحيح، فهل تكون عواصم ما تبقى من العالم العربي بعيداً عن السرطان الطائفي بغداد الأمس؟!