ليس ثمة شك أن
الحداثة الغربية أحدثت صدمة كبيرة في وعي المثقفين العرب، فبقدر ما كانت هناك قناعة لدى أكثرهم بأن النمودج الغربي، هو النموذج الملهم لأي حداثة مفترضة، كان هناك نظر مزدوج لتحققاته التاريخية، يضع الغرب الصناعي المتقدم، في مقابل الغرب الاستعماري الذي يهيمن على مقدرات الشعوب الجنوبية، ويعيق مشاريع نهوضها، ويجعل من تخلفها شرطا لاستدامة التفوق الغربي.
كان الدكتور محمد عابد الجابري أكثر المثقفين العرب، حرصا على ممارسة هذا النقد المزدوج، فيما حاول آخرون مثل المفكر عبد الله العروي، أن يقرأوا هذه الازدواجية في سياقها التاريخي، مصرين على الاهتمام بتحقيق شروط النموذج الملهم عربيا، مع اختلاف بين في القراءة لهذا النموذج، وللمعادلة العربية في مختلف مستوياتها، ولمنهجية التنزيل.
فهمي جدعان.. أزمة تطوير الخطاب العقدي والسياسي والقيمي
برؤية أكثر انفتاحا قدم الدكتور فهمي جدعان رؤيته لمشروع التحديث العربي، وقدم تصوره النقدي بعد أن حاول التأريخ التحليلي لمجمل الأفكار النهضوية التي طرحت طوال قرن من الزمن في الوطن العربي، مستوعبا بذلك حتى المشروع الفكري النهضوي الذي طرحته الحركة الإسلامية في شخص بعض رموزها (حسن البنا، سيد قطب...) واختار أن يحدد الأزمة التي يعاني منها المشروع التحديثي العربي في تأملاته المشرعة على المستقبل، فخصص خاتمة كتابه (أسس التقدم عند مفكري الإسلام)، للحديث عن بعض الإشكاليات التركيبية التي تواجه المشروع التحديثي العربي بمختلف تشكيلاته، والتي تولدت بفعل التفاعل مع الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فحاول حصرها في ثلاث زوايا:
ـ الزاوية الأولى: وتتعلق بوجود أزمة في تطوير الأساس العقيدي في الإسلام لكي يكون أساسا للتقدم. فمع تسجيله للتطور الذي حصل لهذا الأساس داخل الفكر النهضوي، وتحوله من توحيد كلاسيكي منشغل بإثبات الأدلة المنطقية الصورية، إلى توحيد دينامي بوظيفة اجتماعية، تتحول أحيانا إلى وظيفة سياسية خالصة، فإنه ألح على الحاجة لتأسيس حديث للتوحيد يكون أكثر إقناعا من التأسيس القديم، إذ لا يكفي ـ في نظره ـ نقل التوحيد إلى عالم الشهادة، بل لا بد من تأسيس الشهادة نفسها، في عصر يميل إلى الشك، وأن ذلك يتطلب أن يعطى للاعتبارات النفسية، والنفسية الاجتماعية، حجمها ومكانتها البارزة في دراسة مفهوم الإيمان، وأن تكون مادة أساسية في تكوين الدعاة، بدلا من هيمنة عقلية الشجب والتكفير.
الزاوية الثانية: وتتعلق بتطوير الخطاب السياسي، فقد لاحظ فهمي جدعان، أن مفكري الإسلام انتهوا إلى الاعتقاد بأن
العالم العربي لا يستطيع التقدم إلا إذا أنهى حالة الفصام بين الحياة السياسية والاجتماعية وبين نظم الإسلام الفقهية أو القانونية، وذلك بأن تكون الدولة للإسلام، حيث اتخذت هذه الرغبة، من قبل بعض الجماعات صورة راديكالية، بل أصبحت الهدف المباشر لعدد من تيارات الإسلام السياسي. ويرى فهمي جدعان أن هذا المسار ينتهي إلى أحد طريقين، إما الإيمان بالطريق الصعب، أي طريق النضال الاجتماعي والسياسي، أو الإيمان بالطريق السهل الراديكالي، وفي كلتا الحالتين، فإن الكلفة حسب فهمي جدعان مكلفة.
الزاوية الثالثة، وتتعلق بالمنحنى التطوري في الفكر النهضوي على مستوى القيم. يسجل فهمي جدعان الدور المهم الذي قام به مفكرو الإسلام، في التنبيه للمبادئ التي تؤسس لمنظومة القيم، ودورها في الدفاع عن الوجود، وفي تجاوز التحديات التي بدأ الغرب يواجهها. لكنه في المقابل، ودون أن يشكك في صدقية هذه المبادئ، يطرح أسئلة ومآزق على قدرة هذه المبادئ على تحقيق التقدم، في عالم محكوم بتحولات عميقة، تمس كل البنى، وتستهدف كل المنظومات القيمية. فالأزمة في هذا المستوى، تتمثل ـ حسب فهمي جدعان ـ في اعتداد الفكر النهضوي بالتقوى، كمكون أساسي في عملية التغيير، في حين أن التحولات التي تجري في الواقع، تعزز الاعتقاد، بصعوبة الاحتكام إلى هذا الوازع الباطني، من أجل إقامة قيم الخير والعدل والنفع العام، وضرورة التفكير في القانون بدلا عنه.
عبد الله العروي: مشروع التحديث العربي يبدأ بالفطام عن الثقافة الأم
ربما كان هذا النموذج هو الأكثر راديكالية ضمن مشاريع التحديث العربية، بحكم أنه لم يغادر قناعته بأن نقطة البدء ينبغي أن تكون بالفطام عن الثقافة الأم، أي عن التراث، وعن المضامين الدينية التي تصنع الثقافة السلفية في الوطن العربي.
صحيح أن عروي "العرب والفكر التاريخي"، ليس هو عروي "السنة والإصلاح"، أو عروي "ديوان السياسة"، لكن، في المحصلة لم يتغير الشيء الكثير في أسس مشروعه التحديثي.
العروي ظل يناضل في مختلف كتاباته الفكرية، على ثلاث واجهات أساسية:
1 ـ واجهة هزم المشروع السلفي، معتبرا أنه صانع التقليد، وأنه العدو الأكبر لأي مشروع تحديثي عربي. تلك الواجهة، التي تصدى فيها العروي لمختلف رموز ما أسماه بالمشروع السلفي، مركزا على علمين اثنين (علال الفاسي ومالك بن نبي)، باعتبار الأول سلفيا يكتب باللغة العربية ويؤثر في المثقفين العرب، والثاني يكتب باللغة الفرنسية ويؤثر في النخب الفرنكفونية. على أن هذه الواجهة لم تقتصر على نقد أو نقض الثقافة الأم في كل تعبيراتها التراثية، بل انصرفت إلى نقد المشاريع القومية والماركسية (سماها مشاريع انتقائية)، ليس من زاوية مضامينها، ولكن من زاوية المنهج الذي تعتمده، إذ اعتبره منهجا سلفيا لا يختلف في شيء عن منهج السلفيين في تقديم مشاريعهم النهضوية.
2 ـ واجهة نقد الماركسية الأرثودوكسية التي يشاركها المرجعية والمنطق التحليلي (المنطق المادي الجدلي)، إذ اعتبر أنها تقود مشروعا حالما لا يقرأ شروط تحقق المشاريع النهضوية، بل لا يستوعب سياق التحديث الغربي، والشروط التي لعبت دورا محوريا فيه، وبشكل خاص، النموذج الليبرالي المرجعي، الذي كان له الدور الحاسم في تغيير البنيات الفكرية والسياسية.
3 ـ واجهة المجادلة على المشروع التاريخاني، أي المشروع الذي يقرأ شروط الواقع، ومنهجية تنزيل المشروع التحديثي، وسياقات الانتقال، وما يتطلبه ذلك من التواضع على مرحلة وسيطة، يلتقي فيها العروي مؤقتا مع خصوم المنطق المادي الجدلي، لكي يتحقق هزم عدو التحديث (التقليد) الذي يمثله المشروع السلفي بشتى تشكلاته سواء تعلق الأمر بالمضمون أو المنهج.
لم تكن المرحلة الوسيطة والانتقالية في مشروع العروي سوى الليبرالية، في نموذجها المرجعي، وليس في مآلاته المشوهة.
تعليل العروي لذلك، أن هذا النموذج الليبرالي المرجعي هو الذي يحدث القطيعة مع مختلف البنيات التقليدية، وأنه لا يمكن بحال إحداث أي تقدم ما دام المشروع السلفي مسيطرا بمضامينه ومنهجه، وأنه حال هزم هذا المشروع، يكون ميسرا الانتقال إلى الأشكال الحداثية التي يمكن أن يتخذها المشروع الحداثي العربي، ليبراليا أو ماركسيا أو غير ديمقراطي اجتماعي.
المشكلة أن العروي وبعد أكثر من أربعين سنة عن مشروعه الذي ضمنه كتابيه "العرب والفكر التاريخي"، و"الإيديولوجية العربية" بقي في الحلقة نفسها، أي مناهضة الثقافة الأم (السنة والتسنن)، دون أن يتغير الواقع لجهة المرحلة الانتقالية (الليبرالية) التي كان العروي يراهن عليها لإحداث التغيير.
لقد أدرك العروي أن مشروعه انتهى إلى ما يشبه الانسداد، ثم راح يفتح قوسين اثنين في كتاباته الأخيرة، قوس يستدعي فيه البنيات التقليدية لتكون سلاحا لهزم المشروع السلفي (المشروع التقليدي بتقديره) عبر ما سماه بـ"اللبرلة من فوق"، أي الاستعانة بالدولة، التي يعتبر العروي أن بنيتها وخطابها وممارستها، هي جزء من التقليد، لهزم الثقافة الأم، التي اعتبرها في كتابه (ديوان السياسة) المعيق الأول للمشروع التحديثي العربي، وقوس ثان، راح فيه يترجم الأعمال الليبرالية التأسيسية، حتى يستنهض المثقف عين العرب إلى ما يجب البدء به في مشروع التحديث العربي، أي توطين الأساسيات الليبرالية المرجعية في المجتمع العربي.