30 آب/ أغسطس 2021، التاريخ الرسمي
لرحيل آخر جندي أمريكي؛ عن أفغانستان بعد عشرين عاما على احتلالها، كان ذلك الجندي، كريس دوناهيو، برتبة جنرال، بما يعيد الذاكرة إلى الوراء أكثر من 32 عاما، وبالتحديد إلى 15 شباط/ فبراير 1989 حينما رحل الجنرال الروسي بوريس غروموف عن أفغانستان، بوصفه آخر عسكري روسي يرحل عن تلك البلاد. في الحالتين لم يكن الرحيل إلا هزيمة، ولم تكن صور الجنرالات المغادرين، إلا توثيقا لإذلال الإمبراطوريات العظمى، حتى وإن أرادت تلك الإمبراطوريات، بصور الجنرالات، قول شيء آخر عن القائد الذي يترك ساحة المعركة بعد تأمين جنوده. ويبقى للتاريخ أن يقول الآن إن كانت هذه اللحظة سوف تؤسس لحقبة تاريخية عالمية جديدة، كما أسست لذلك لحظة هزيمة بوريس غروموف وجنوده.
لم يرحل الأمريكان عن مطار كابول إلا بعد تدمير ما فيه من طائرات ومصفحات ومدرعات. بالتأكيد يعزّ على جرح الإمبراطورية، الذي ينزّ صلفا، أن تترك للقوّة التي هزمتها تلك الأسلحة، لكنها، في حقيقة الأمر، كانت تعطي معنى
الهزيمة مداه، تُكمّله وتؤكّده. فالإمبراطورية عجزت عن حمل تلك المركبات والطائرات وسواها من الأسلحة، الإمبراطورية التي بدت في لحظات وكأنها قادرة على حمل الأرض في أساطيلها التي تطوّق العالم، أو تعليقها في صواريخها ومركباتها الفضائية التي تخترق سقف العالم، تعجز عن أن تتدبر أمرها في حمل عشرات من الطائرات والمدرعات. كما أن مشهد التدمير في اللحظات الأخيرة، لا يخلو من الرمزية المعبّرة عن المهمة. هذه الإمبراطورية يمكنها أن تدكّ المدن، وتفجر مخلفاتها، ولكنها لا يمكنها بناء الدول، وهذه الإمبراطورية التي يُفترض بحجمها الذي يغطي عين الشمس، وقدراتها التي تفوق ما اجتمع للبشر في التاريخ، تتصرف بانتقام مرّ، انتقام يليق بالصغار، يليق بالغزاة.
مشهد التدمير في اللحظات الأخيرة، لا يخلو من الرمزية المعبّرة عن المهمة. هذه الإمبراطورية يمكنها أن تدكّ المدن، وتفجر مخلفاتها، ولكنها لا يمكنها بناء الدول، وهذه الإمبراطورية التي يُفترض بحجمها الذي يغطي عين الشمس، وقدراتها التي تفوق ما اجتمع للبشر في التاريخ، تتصرف بانتقام مرّ، انتقام يليق بالصغار، يليق بالغزاة
لم يُسعِف الوقت الإمبراطورية لجرّ بعض من آلة الحرب التي جلبتها معها، قدرات الإمبراطورية ضئيلة بالنسبة للوقت الذي منحها إياه اتفاقها مع طلبة العلوم الدينية المقاتلين، للانسحاب؛ بوجه تبقى فيه لمعة كبرياء زائفة، إلا أنّ التاريخ أصرّ على فرض بصمته على المشهد، فكفاح عشرين عاما كان لا بدّ وأن ينتهي على نحو يهين كبرياء الإمبراطورية، فيجعل انسحابها المبرمج وفق اتفاق معلوم المواقيت، وكأنه فرار بليل، فرار لا يخلو من الصلف، ولكنه فرار على أية حال، كفرار الإسرائيليين من جنوب لبنان عام 2000 بليل فاضح، وفرارهم من غزة عام 2005، مخلفين ما دمروه بأيديهم من مبان ومقرّات ومستوطنات شيّدوها طوال 38 عاما.. الصلف المدجج يخرب ما بناه بيده، ولو كان في صورة إمبراطورية!
جرح الإمبراطورية فضيحة، مهما زعمت وبدا للعالم وأحبّ عبيدها؛ إظهار هزائمها مرونة عالية تعيد فيها الإمبراطورية تموضعها على رأس الهيمنة العالمية، وهي بذلك، عندهم، تستحق المديح، لواقعيتها ونزعتها العملية التي لا تقف عند الأحاسيس المكلومة. لكن المشهدية الفائضة بالدلالات تقول إنها مختنقة بجرحها، حتى آخر قطرة من كبريائها، كما تختنق هزيمتها بآخر جنرال يرسف في خيبته وهو يغادر أرض المعركة. بيد أنّ الأهم في مكابرة الادعاء والدعاية، هو أنّ الكفاح الطويل المرير الذي يغرز عينه في الهدف النهائي، هو الذي استفزّ هذه النزعة العملية، ودبّر لها مخرجا لا يختلف جوهريّا عمّا يفعله المنتصرون في المعارك، حينما يفتحون للجيش المهزوم ثغرة من زاوية الهزيمة، ليفرّ بما تبقى له من مقاتلين. اتفاق الطلبة مع الإمبراطورية تكتيك عسكري يوفر الوقت والجهد، ويمتص مقاومة الإمبراطورية المهزومة.
الأهم في مكابرة الادعاء والدعاية، هو أنّ الكفاح الطويل المرير الذي يغرز عينه في الهدف النهائي، هو الذي استفزّ هذه النزعة العملية، ودبّر لها مخرجا لا يختلف جوهريّا عمّا يفعله المنتصرون في المعارك، حينما يفتحون للجيش المهزوم ثغرة من زاوية الهزيمة، ليفرّ بما تبقى له من مقاتلين
الكفاح الدامي، الصبور، وحده الذي فتح ثغرة لفرار الإمبراطورية في صورة اتفاق. يعزّ، حتما، على عبيد الإمبراطورية، والملتصقين بشباك أوهام المشاعر والأيديولوجيا والطائفية، تصديق أنّ
الهزيمة المذلة للإمبراطورية قد صنعها حفنة من طلبة العلوم الدينية، لا يرطنون بالمفاهيم الثورية الماركسية، ولا يهتمون لاستبدال البدلة الإفرنجية بزيهم الأفغاني. تعمى البصيرة عن رؤية عشرين عاما من الكفاح والثبات على الهدف.
ماذا تقول الحكاية أيضا عن فضيحة الإمبراطورية؟ هؤلاء الذين ربّتهم على عينها، وشكّلت منهم النموذج المراد لنا، أليست هزيمتهم، وقلة شرفهم، من هزيمتها؟ يبدو أشرف غني النموذج المثالي الذي يتطلع إليه عديدون في بلادنا، أستاذ الأنثروبولوجيا الثقافية، والخبير في البنك الدولي، يحكم أفغانستان مسوّرا بالإمبراطورية، ماذا يريد الطامحون أكثر من ذلك؟!
كم مرّة أطلّ برأسه، رجل أعمال عرف أمريكا أكثر مما عرفنا، أو موظف أممي لا ندري لماذا أحبّته الإمبراطورية ورضيت به، أو أكاديمي غَسَلته مؤسسات الإمبراطورية، طامحا لحكمنا، أو تعليمنا، وبعضهم سقط - بالفعل - بالباراشوت، في أرضنا، يعلمنا الإدارة، وبناء المؤسسات والديمقراطية، وكم من متمنّ لو أنه ذاك المحمي برغبات الإمبراطورية وغرائزها؟! ولكنّ النموذج فاسد، قليل الشرف، يفرّ بعشرات ملايين الدولارات. وهذا قدر أفغانستان، أن تقدم لنا الصورة كاملة، وأن تصيغ الحكمة التي تذهب في الناس مثلا.. كان حميد كرزاي مثلا، والآن أشرف غني، لأنّ معنى الشرف لا يكتمل وضوحه إلا ببروز نقيضه!
تقول الحكاية أيضا إن التاريخ لا يتوقف عند القوّة التي تحوّط الأرض بأساطيلها وقواعدها العسكرية وقيمها الثقافية ونهجها الاقتصادي، وتُحطِّم تطلعات الاستقلال بدولارها المغطى بالطائرة والصاروخ والقنبلة النووية، فالتاريخ لا نهاية له عند أحد، وبصيرة الإمبراطورية محجوبة بغرور قوتها عن إدراك مكره، والانتصارات الصغيرة، مقدمات كبيرة تحفر في مجرى التاريخ!
twitter.com/sariorabi