عُرفت حركة طالبان في فترة حكمها السابقة بحرصها على تطبيق الأحكام الشرعية وإنفاذها الفوري لها، بناء على رؤيتها في وجوب تنفيذ الدولة الإسلامية لتلك الأحكام التزاما بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو ما حمل الكثيرين على تصنيفها اتجاها دينيا متشددا، بسبب إصرارها على تطبيق بعض الأحكام بحرفيتها دون النظر في مآلات ذلك وتداعياته حسب منتقديها.
وقد سبق للحركة أن قامت في أواخر حكمها السابق عام 2001 بتفجير تمثالين ضخمين لبوذا في ولاية باميان، لأن وجودهما مخالف للشريعة الإسلامية، بوصفها صنمين يُعبدان من دون الله، وهو ما عرض الحركة لانتقادات واسعة وشديدة حينذاك من غالب دول العالم، لكن الحركة لم تأبه بكل المطالبات الدولية بعدم تفجيرهما، أو الموافقة على نقلهما خارج أفغانستان.
وفرضت الحركة إبان حكمها لأفغانستان قبل عقدين (1996- 2001) على النساء لباس البرقع بصفة إلزامية، مع التشديد في خروج النساء من البيوت، ومنع كثير من مظاهر الترفيه، وهو ما نُظر إليه باعتباره تشددا في تطبيق الأحكام الشرعية المتعلقة بالنساء، ما عرض الحركة لانتقادات شديدة، خاصة من المنظمات والجمعيات والهيئات المدافعة عن حقوق المرأة.
وفي ذات الإطار يُشار إلى موقف مؤسس الحركة وزعيمها الأول، الملا محمد عمر الرافض لتسليم زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن للولايات المتحدة الأمريكية، على خلفية اتهامها له بالمسؤولية عن تفجيرات 11 سبتمبر، التزاما من الملا عمر وحركته بالحكم الشرعي الذي لا يجيز لمسلم تسليم أخيه المسلم لعدو كافر استنادا إلى الحديث النبوي "المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يخذله.." ولو أدّى ذلك إلى انهيار حكمه وذهاب دولته.
وباستحضار ما كانت عليه الحركة في سابق حكمها، ومقارنة له بما هي عليه في طورها الحالي، يتوقع مراقبون أن تتجه الحركة إلى تغيير نهجها المتشدد في تطبيق الأحكام الشرعية، وهو ما يظهر بوضوح في تصريحات المتحدثين باسم الحركة سواء أكان في تعاملها مع المرأة بعدم فرض البرقع بصفة إلزامية على النساء مع التزامهن بالحجاب الشرعي، أم في تغيير تعاملها مع المخالفين لها بما طرأ عليها من تطور في الجانبين الفكري والسياسي اعتبارا بتجربتها السابقة، واستفادة من انفتاحها على تجارب ونماذج أخرى.
لكن وفي ظل صعود طالبان بعد فرض هيمنتها على أفغانستان ما هي انعكاسات صعود الحركة بنسقها الديني في طوره الحالي على أنماط التدين وفق التصنيفات الشائعة والمتداولة كالتدين الوسطي والتدين المتشدد، والنهج السلمي وما يقابله من نهج عنفي وعمل عسكري مسلح؟ وكيف سيؤثر صعود طالبان على أنساق التدين تلك.. وما هي مآلاته المحتملة؟
في الإجابة عن الأسئلة السابقة رأى الباحث المغربي في العلوم السياسية، الدكتور عبد الرحمن الشعيري منظور أن "صعود نجم طالبان الحالي بسياقاته السياسية والفكرية يجعله مختلفا عن تجربتها السابقة حينما تولت الحكم سنة 1996، فقد أضحت الآن أقرب ما تكون إلى التيار الحركي السياسي منها إلى التيار السلفي الجهادي التي كانت في تناغم معه سابقا".
وأضاف: "كما أن تأثير صعود طالبان المتزامن مع الانسحاب الأمريكي أعطى نفسا إيجابيا للشعوب الإسلامية، وللتيار الإسلامي بشكل خاص بعد التحولات الدراماتيكية المحبطة بعد تجربة الربيع العربي، فالصعود الطالباني بحلته الجديدة وتحولاته الايجابية على مستوى الاعتدال الفكري والنضج السياسي سيسهم في حفز الإرادة لأعضاء التيار الإسلامي، وسينعش المخيال السياسي لشبابه وبالأخص إذا نجح بنسج شراكة سياسية مع مختلف النخب الأفغانية في تدبير شؤون الدولة".
وواصل حديثه لـ"عربي21" بالقول "وبكلمة فإن صعود طالبان سيؤثر رمزيا في إنعاش السلوك التربوي والسياسي لأعضاء الحركات الإسلامية في اتجاه المزيد من الصمود والإيجابية والسلمية في العمل السياسي، بما يمكن عده تأثيرا رمزيا محفزا للسلوك السياسي للتيار الحركي الإسلامي".
أما بخصوص نمط التدين، فطبقا لمنظور "تسهم في تشكيله محددات فكرية وسياسية وإعلامية كبرى تحتاج لسياق جيو سياسي وتراكم عقود من كل هذه المؤثرات بقيادة علماء، أو شخصيات أو تنظيمات، وفي الحالة الطالبانية سيبقى التأثير محدودا ضمن المجال الإسلامي المحلي والإقليمي السني الآسيوي".
من جهته لفت الكاتب الصحفي المصري، عمرو عبد المنعم إلى أن "حركة طالبان يتم ترويضها الآن على نظام شبكات الاعتدال الديمقراطي الإسلامي لاحتواء القاعدة وقياداتها الشاردة لتبدأ عملية أخرى من عمليات الجذب والسيطرة، ومن الملاحظ وخلال الأيام الماضية منذ الانسحاب الأمريكي حجم التأييد الكبير للحركة من جميع تنظيمات وجماعات الإسلامي السياسي لها، واعتبارها الدولة الإسلامية الوليدة التي يحاربها الكفار في عودة لسياقات تاريخية لأواخر سبعينيات القرن الماضي".
وانتقد عبد المنعم في حواره مع "عربي21" أداء جماعات الإسلام السياسي لأنها "لم تتعلم من الماضي، ولم تدرك أن طريق الدول إتقان فن السياسة، وبه براجماتية كبيرة، أما طريق الجماعات فهو دين وإصلاح، وهي قيم ومبادئ وثمة بون شاسع بين السياسة والدين، فالسياسة تجربة وخطأ، والدين رسالة وأخلاق، السياسة تحكم حياتنا والدين يحكم أخلاقنا، ولو تحكم الدين في أخلاقنا فإنه سيتحكم في كل شيء" وفق رؤيته.
وتابع: "مفاوضات الدوحة أسفرت عن طمأنة الغرب بأن طالبان تملك ثلاثة ملفات كبرى، وتستطيع أن يكون لها دور بالغ الأهمية فيها، الملف الأول إقليمي ويشمل روسيا والصين وإيران، فهؤلاء على استعداد لإقامة علاقات مع نظام حركة طالبان الجديد، في مقابل عدم تهديد أمن هؤلاء أو أن تكون دول مثل (طاجيكستان، قيرغزستان، كازاخستان) أماكن ذعر لدولها، والملف الثاني متعلق بالقاعدة ووعود طالبان باحتوائها والسيطرة على غلوها وتطرفها تجاه الغرب، أم الملف الثالث فيتعلق بداعش فقد تعهدت طالبان بقتالها وإنهاء وجودها في منطقة آسيا الوسطى والقوقاز".
وأشار إلى "أنه من المحتمل أن تتوصل حركة طالبان إلى اتفاق مع الليبراليين والعلمانيين، كما فعلت جماعة الإخوان سابقا في فترة من الفترات أن تتحالف مع بعض العلمانيين والليبراليين، لكن من المستبعد اتفاق الحركة مع الحركات الدينية القريبة الشبه منهم، كبعض قادة القاعدة وداعش"، على حد قوله.
بدورها قالت الكاتبة الأردنية، إحسان الفقيه: "لا أرى أن صعود طالبان سوف يعزز التشدد والتطرف في المحيط الخارجي، لأن طالبان حركة محلية كل ما يهمها دولة قوية بمرجعية إسلامية، فهي ليست تنظيما دوليا كداعش والقاعدة، والنموذج الذي ستمثله هو نموذج الدولة".
إحسان الفقيه.. كاتبة أردنية
وأردفت في حديثها لـ "عربي21": "ومن المستبعد أن تتجه التيارات الإسلامية في بلادها للسير على خطا طالبان في استخدام السلاح، لأن لطالبان حاضنة شعبية، وكانت تواجه الاحتلال وكفاحها المسلح رغم أن الفصائل كانت طرفا فيه، إلا أن له ارتباطا وثيقا بالوجود الأجنبي في أفغانستان، بخلاف الدول العربية التي تحكمها أنظمة قمعية، ولها ظهير شعبي مؤيد لها، فأي توجه إسلامي نحو العنف سوف يؤدي لاستئصال شأفة هذه الجماعات".
وأشارت إلى أنه من "السابق لأوانه التكهن بانعكاس صعود حركة طالبان على أنماط التدين في أفغانستان، لكن وبشكل عام، وكما يقال إن "الناس على دين ملوكهم" فمن الطبيعي تأثر هذه الأنماط بالصبغة الدينية لطالبان، بانتمائها الديني العقدي والفقهي المعروف، مع ضرورة التنبيه إلى أن الشعب الأفغاني في غالبه شعب محافظ، وليس هناك مشكلة بينه وبين التدين، أما اتجاه طالبان نحو تطبيق الشريعة فلن يضيف كثيرا لهذا النمط من التدين الوسطي، وبالتالي لن يؤثر عليه سلبا".
وختمت حديثها بالإشارة إلى أن "الصعود الحالي لطالبان يختلف عما كان في التسعينيات، فهي بلا شك تطورت، وتريد الاندماج في المجتمع الدولي، وتركز في خطابها على بناء الدولة، ومن ثم سيكون عليها السير في النسق العالمي لمواجهة الإرهاب، وسيكون لهذا مردود على الداخل الأفغاني حتما في ما يتعلق بالتدين ذي التوجه السلمي أو العنفي، إذ لا يمكن لطالبان أن تكون مظلة للإرهاب والتطرف الفكري، وجماعات العنف المسلح، وقد لاحظنا تعهدها بملاحقة داعش والقاعدة".
معالم في الأساس التربوي عند "العدل والإحسان" المغربية (4من4)
هل طالبان اليوم أكثر مرونة وانفتاحا من تجربتها السابقة؟
معالم في الأساس التربوي عند "العدل والإحسان" المغربية (2من4)