"بدأنا إضراباً عن الطعام منذ أسبوعين، لعل صوتنا يصل إلى المسؤولين ليرفعوا عنا ما نحن فيه من عزل، وحرمان من الأهل، ومن حقوقنا الطبيعية؛ فلم يستجب لنا أحد، بل كانت رسائلهم لنا: اقتلوا أنفسكم. لا تهمنا الإضرابات. يا أحرار العالم: لقد ضاقت بنا الدنيا حتى أشعلنا النار في زنازيننا، وأمسكت النار في أجسادنا، وأصابت 12 منا بحروق. فعلنا ذلك ليرتاح المسؤولون، ومع ذلك قابلوا هذا بالبطش والتنكيل، والتجريد من الملابس، والضرب، والعزل.. أغيثونا".
ما سبق هو نص رسالة تسربت من سجناء العقرب شديد الحراسة (مقبرة السجون المصرية) يوم الثلاثاء الماضي، والرسالة كاشفة لحالة اليأس والإحباط التي يعانيها السجناء والتي دفعتهم لإشعال النيران في زنازينهم حتى يتمكنوا من إيصال صوتهم، فاحترقت أجساد عدد منهم، ولم يعبأ المسؤولون بفعلتهم إلا من ناحية التحقيق الجنائي لمعرفة من أشعل النيران ومعاقبته على فعلته.
وحسب الرسالة التي نقلتها الشبكة المصرية لحقوق الإنسان فإن 15 معتقلا حاولوا إشعال النيران في أنفسهم، بعد أن قضوا أياما في الإضراب عن الطعام، مع أكثر من مائة مضرب دون أن تستجيب إدارة السجن لمطالبهم بوقف الانتهاكات بحقهم.
ما حدث في سجن العقرب هو نوع من الاحتجاج العالي على سوء المعاملة وقد ابتدعه السجناء الجنائيون ونقله عنهم السجناء السياسيون في مواجهة المظالم التي يتعرضون لها والتي تتسبب في موتهم ببطء داخل محبسهم، وسوف يصعدون احتجاجاتهم إلى مستويات أعلى إذا استمرت المعاملة السيئة لهم.
يوصف سجن العقرب بالمقبرة، وهو مخصص للقيادات والكوادر السياسية المهمة من مختلف الاتجاهات (يضم أكثر من ألف معتقل)، وهو الأكثر انتهاكا لحقوق المعتقلين التي أقرتها لائحة السجون ذاتها، وتتبجح إدارة السجن أمام المعتقلين أنها تتمنى أن تسهم إجراءاتها القمعية في موت أكبر عدد من المعتقلين السياسيين، وقد شددت إدارة السجن إجراءاتها القمعية وتنكيلها بالسجناء منذ منتصف تشرين الثاني (نوفمبر) 2020، حيث وقعت معركة بين بعض السجناء والضباط ومات فيها 4 من السجناء و4 من الضباط، وكعقاب عام لكل السجناء حرمتهم إدارة السجن من التهوية الكافية والكهرباء والماء الساخن في فصل الشتاء الماضي، مع استمرار حظر الزيارات العائلية (بعض السجناء محرومون من الزيارة منذ 5 سنوات) والحرمان من ساعات التريّض.
يشعر المعتقلون السياسيون بالإحباط من تجاهل إدارات السجون لأبسط حقوقهم، كما يشعرون بالإحباط لغياب الجهد الكافي من القوى السياسية لتخليصهم من أسرهم، ويشعرون بالإحباط أيضا من المجتمع الدولي المتراخي في مواجهة النظام المصري على خلاف الموقف من أنظمة قمعية أخرى في العالم،
إشعال المعتقلين النار في أنفسهم ليست المحاولة الأولى للانتحار في السجون المصرية بسبب قسوة المعاملة، ولن تكون الأخيرة في ظل تعنت إدارات السجون، واستمرار التعامل غير الآدمي مع المعتقلين، فقد وقعت عدة حالات انتحار(بما يجعلها ظاهرة) عرف منها حالة المدون شادي حبش (2 أيار/ مايو 2020 حسب بيان النيابة العامة) ومحاولة انتحار المدونين عبد الرحمن طارق (موكا) ومحمد إبراهيم أكسجين وثلاثتهم ينتمون للتيار الليبرالي، وقد ذكر لي سجناء سابقون وقوع عدة حالات انتحار في العديد من السجون، تم نشرها إعلاميا باعتبارها وفيات نتيجة الإهمال الطبي، أو حتى وفيات طبيعية مراعاة لمشاعر أسر المنتحرين، كما نشر العديد من الشباب الذين مروا بتجربة السجون عن تجارب لهم أو لزملائهم في محاولات الانتحار داخل السجون، وإذا كان سجن العقرب شديد الحراسة بقسميه (1 و2) هو الأكثر بروزا في محاولات الانتحار إلا أن السجون الأخرى بما فيها الأقل قمعا مثل سجن وادي النطرون شهدت بدورها محاولات انتحار عديدة.
يشعر المعتقلون السياسيون بالإحباط من تجاهل إدارات السجون لأبسط حقوقهم، كما يشعرون بالإحباط لغياب الجهد الكافي من القوى السياسية لتخليصهم من أسرهم، ويشعرون بالإحباط أيضا من المجتمع الدولي المتراخي في مواجهة النظام المصري على خلاف الموقف من أنظمة قمعية أخرى في العالم، وهذا يفرض مسؤولية أكبر على القوى السياسية المصرية بمختلف اتجاهاتها للتوحد على قضية السجناء فقط باعتبارها تهم الجميع طالما أن هذه القوى لم تستطع التوحد على أهداف أخرى.
لعل واقعة إشعال النيران في زنازين سجن العقرب تشعل غضب القوى السياسية والمنظمات الحقوقية المصرية والعالمية وغيرها من منظمات المجتمع المدني لتنظيم حملة كبرى للإفراج عن السجناء، ولتكن البداية بكبار السن والنساء والمرضى، والمحبوسين احتياطيا، وتحسين ظروف الحبس للجميع حتى يتم الإفراج عنهم، ويكفي لتحسين ظروف الحبس إجبار النظام المصري على تطبيق قانون السجون رقم 396 لسنة 1956 المعدل في 2015، وكذا لائحة السجون المصرية بما تضمنته من حقوق للسجناء في الغذاء والدواء والتريض والقراءة، والزيارة.
ليكن التأكد من ذلك عبر تشكيل فريق أممي لزيارة السجون المصرية، ومتابعة تطبيق القانون واللائحة، والإطلاع على أوضاع المعتقلين والاستماع إليهم بشكل حر بعيدا عن الشكل التمثيلي الذي ترتبه السلطات المصرية للوفود الشكلية التي تنظمها بمعرفتها سواء لصحفيين او حقوقيين، تبرز لهم بعض الجوانب وتخفي عنهم كل الانتهاكات وتمنعهم من مقابلة المعتقلين بشكل طبيعي، ويخرج هؤلاء بدورهم لتضليل الرأي العام بتقارير كاذبة عن سجون الخمس نجوم في مصر بما تشمله من مطابخ وكافيهات وملاعب وحدائق ومتنزهات لا تظهر إلا لمشاهدي القنوات التي تبث تلك التقارير بينما يبقى السجناء أسرى زنازينهم القاتلة.
خيرت الشاطر.. التنظيم والإنسان
المنفيون ورابعة وذاكرة المظلوم