يمكن القول بأن التونسيين بعد عشر سنوات من ثورتهم قد فشلوا في حسن إدارة خلافاتهم. حصل ذلك رغم الحريات العالية التي تمتعوا بها، ورغم امتلاكم لنخبة مشهود لها بالعمق والتنوع والجرأة. فالذي يلقي نظرة اليوم على ما يكتب وما يقال يصاب بالصدمة، ويغرق في حيرة مريبة، ويشعر بالخوف على مصير هذا البلد الذي يبحث منذ فترة طويلة عن طريق يضمن له الاستقرار والوضوح وتحقيق التعايش السلمي بين نخبه وأبنائه.
عندما يلقي أي مراقب نظرة متفحصة لحجم تبادل التهم بين المشتركين في وسائل التواصل الاجتماعي وفي مقدمتها الفيسبوك، يدرك الانهيار الحاصل في لغة الخطاب، وكأن الجميع ضد الجميع، يتهمون بعضهم بأقذر التهم، وبما أن التونسيين اشتهروا بكونهم مثل عدد من الشعوب الأخرى لا يترددون في اللجوء بسرعة إلى السباب واستعمال الألفاظ الجنسية والقبيحة ضد النساء والرجال، ويسرعون في أحيان كثيرة نحو المس بالمقدسات للتعبير عن غضبهم، وهو ما جعل الصراعات الدائرة بينهم تفتقر للجدية، وتخلو من أي عمق، وتنقطع حبال الحوار بينهم، ويتحول في لحظة ما إلى التهديد باستعمال الأسلحة الثقيلة من أجل نسف المخالفين وطردهم من البلاد أو تصفيتهم جسديا إن لزم الأمر .
لهذه الظاهرة الخطيرة أسباب عميقة وتاريخية، لكن الذي زاد في تعميقها وتحويلها إلى بركان يكاد ينفجر في وجوه الجميع هو عجرفة النخب، وعجزها عن التحاور بهدوء، وبرقي وعمق واحترام متبادل. فعندما انتقلت البلاد من الدكتاتورية إلى المجال التعددي، تقدمت النخب السياسية الصفوف وشرعت في استعراض ما عندها، لكن سرعان ما صدمت التونسيين بقلة حيلتها، ورغبتها في نفي المخالفين وتحقيرهم واتهامهم بالانتهازية واللصوصية والجهل.
وقد كان أخطر ما تم اتخاذه بعد الثورة هو تمكين التلفزيون العمومي من بث الجلسات العامة للمجلس الوطني التأسيسي، ثم مجلس النواب. ورغم أن الهدف من ذلك القرار تحقيق الشفافية وتدريب الرأي العام على متابعة القضايا التي تهم الوطن والمواطنين، لكن المشهد سرعان ما تحول إلى صراع ديكة، كل يحاول أن يحاصر الآخر، ويمنعه من الكلام، حتى أصبح المشهد مقرفا، ومحبطا، ومدمرا للأعصاب، وبلغ أقصى درجات السوء خلال الأشهر الأخيرة عندما انقلب الأمر إلى مجرد سيرك لا أكثر ولا أقل .
مصلحة الوطن تقتضي التصدي الجماعي لهذا الانزلاق الخطير نحو الحرب الأهلية وحماية السلم الأهلي. هذا ليس تهويلا لما يجري، بل دعوة بها قدر واسع جدا من الإيمان بأن تونس اصبحت مهددة بالسقوط في المحظور.
ليس المهم في هذا السياق من المسؤول عن ترذيل البرلمان وتوجيه الضربة القاضية للديمقراطية التمثيلية، فذلك له موقع آخر، لكن العبرة بالنتيجة، والنتيجة أن الانتقال الديمقراطي أصبح بدون أفق، وأن التونسيين وصلوا إلى مرحلة اللاعودة، ولم يبق يفصلهم عن العنف المباشر سوى مسافة قصيرة.
مصلحة الوطن تقتضي التصدي الجماعي لهذا الانزلاق الخطير نحو الحرب الأهلية وحماية السلم الأهلي. هذا ليس تهويلا لما يجري، بل دعوة بها قدر واسع جدا من الإيمان بأن تونس اصبحت مهددة بالسقوط في المحظور. فعندما يتحدث الرئيس سعيد للمرة الثالثة عن وجود مخطط لاغتياله، فهذا ليس أمرا هينا. وعندما يتم الربط بين هذه التخطيط واولئك الذين يتخذون من الإسلام مرجعية لهم، فالخطر يصبح مضاعفا ومحدد المعالم. وعندما تذكر مصادر قريبة من الجهات الأمنية أن شخصا متشددا وصف ب " الذئب المنفرد " قد تم إيقافه، وهو حاليا بمرحلة التحقيق. كما أن وزير الداخلية الليبي ينفي من جهته تسلل 100 إرهابي إلى التراب التونسي، وذلك ردا على ذكره " أنتربول تونس ".
كل هذا يوحي بأن سيناريو في الأفق بصدد الطبخ على نار متسارعة. وأدركت حركة النهضة أنها المعنية بدرجة أولى من هذه الإيقاعات المتسارعة، لهذا حاولت أن تستبق الحريق فأصدرت بيانا طالبت فيه بأن "تتولّى أجهزة الدولة الأمنية والقضائية القيام بما يلزم للكشف عن هذه المؤامرات حتى تُحدَّد المسؤوليات ويطمئن الرأي العام ويحصّن الأمن القومي التونسي". كما أكدت على أن نهج الحركة قائم على "الالتزام بقوانين الدولة التونسية، والعمل في إطارها واحترام مؤسساتها، واعتماد الحوار السياسي أسلوبا وحيدا لحلّ الخلافات، والعمل على الحيلولة دون ما يمكن أن ينزلق بالبلاد إلى مربعات العنف والفوضى".
ولم تكتف الحركة بذلك، وإنما دفعها الخوف من انتكاسة قوية قد يكون ثمنها غاليا، لهذا دعت في بيان آخر إلى "ضرورة النأي بالخطاب السياسي عن الشحن والتجييش والتحريض، واحترام هيبة مؤسسات الدولة وفي مقدمتها رئاسة الجمهورية". واستنكرت "تهجم بعض الأطراف على رئيس الجمهورية قيس سعيّد وعائلته"، وأكدت استعدادها ل"اتخاد إجراءات تأديبية ضد أي من قواعدها يثبت من خلال تدويناته الإساءة لأي كان والابتعاد عن أخلاقيات الخطاب السياسي". وهو البيان الذي أغضب جزءا من قواعد "النهضة" التي انتقدت البيان حيث تبرأت بعض الكوادر من هذا البيان وصرحت بأنه "لا يلزمها".
فعلا، الوضع خطير ودقيق، وهناك من يدفع إلى تصفية كاملة وجذرية للحساب مع حركة "النهضة". ولم يعد هناك أي شك في أن الرئيس سعيد يضع الإسلاميين في مقدمة أعدائه، ويعدهم بتوجيه صواريخ أخرى نحوهم من أجل نسفهم. فهل يتمكن الغنوشي هذه المرة من إنقاذ الحركة من عاصفة جديدة تهيأت لها كل الظروف الملائمة لاندلاعها في بلد يئن؟.
الأجواء محتقنة، تبادل التهم مستمر بنسق سريع، المناخ أمني بامتياز، وحالة الترقب هي السائدة حاليا في انتظار ما سيعلنه رئيس الدولة.