لا يمكن
أن تنمو الأنظمة الشمولية إلا بأمور صارت معلومة: إصرار الطاغية على الحكم وحده، تحضير
أرضية من التنازع والتناحر الشعبي، تكليف جهة بتصفية خصومه ومرافقتها بآلة الخوف والتخويف.
أما في ديكتاتورية الجماهير فيعتمد الطاغية فيها على الجماهير نفسها، فيحولها إلى آلة
ترويع لبعضها البعض وتنوبه في مطاردة المناوئين له.
اعتمد
الرئيس بورقيبة على الشُعب الحزبية واعتمد بن علي على المخبرين ومجرمي الأحياء وأصحاب
السوابق والبوليس السياسي، ويبدو أن الرئيس الجديد المشرئب نحو الحكم المفرد يعتمد
على الفقراء والمعطلين والموظفين الصغار الذين يشعرون بالاضطهاد لتصفية المعارضين،
ويتوّج هؤلاء عدد من النخبة الثقافية والجامعية التي تحلم بتصدّر المشهد، أو الوصول
إلى غنائم من مناصرتها للرئيس، الذي يرون أنه يبدو بلا حاشية، ويرون في أنفسهم ذوات
مؤهلة لقطف تلك الكراسي الشاغرة حول الحاكم الجديد.
أرضية
الحقد جاهزة
بسبب
الإخفاقات المتكرّرة للنخبة السياسية في تونس، وجد الرئيس قيس سعيد أرضية جاهزة لجرّ
الشعب وراءه في مغامرته الخاصة، فقد أنبتت التجارب السياسية السابقة وما يسمى بالمنظومة
طبقة سميكة من النفور والتحاقد الطبقي والجهوي، ما يجعل تأجيجها أسهل من اختلاق عصبيات
أخرى كالإثنية أو الدينية أو المذهبية، كما في بلدان أخرى، كلبنان مثلاً.
وهذه
الغنيمة السياسية التي قطفها قيس سعيد بوصوله إلى الرئاسة عبرها، ما زالت صالحة لكي
تعبّد له الرئاسة مدى الحياة، فالاستثمار في الفقر أقوى من الاستثمار في الجهل الذي
بنت عليه حركة النهضة حياتها السياسية منذ 2011. وهكذا أصبح للرئيس جيش جديد من الأنصار
دون أن يكلفه ذلك إطلاق حزب واحد أو حتى جمعية.
لماذا
انفضوا من حول حمه الهمامي؟
الخطاب
اليساري ظل طوال السنوات الماضية متمسكاً بطابعه السلفي ولم يغير من استراتيجياته ولا
من مفرداتها، ويمثل معجم الخطاب أهم إخفاقات اليسار الشيوعي والذي يمثله حمه الهمامي،
وتخلّص حزبه من لقب الشيوعي في التسمية بعد الثورة لم يزده إلا إخفاقاً، لأن الشعب
يدرك أنها تحويرات على مستوى الشكل ولغايات انتخابية، ونعتبر أن تلك من الحماقات التي
ارتكبها حزب العمال الشيوعي عندما أراد أن يؤسلم نفسه دون داع، عوض أن يرتب بيته الداخلي
ويطرح المشاريع والمخططات.
لكن
الأخطر هو تمسك حمه الهمامي برئاسة الحزب وترشحه للانتخابات الرئاسية، ما انجر عنه
تفكك الجبهة الشعبية ومواصلة حمة الاستثمار في الفقر والجهل معاً، عبر كلمة صارت عند
التونسي ممجوجة وتثير سخطه، وهي كلمة "زوالي"، فحمه الهمامي لا يكاد يظهر
في أي منبر دون أن يردد هذه الكلمة، التي اكتسبت عبر تاريخ التداولي للغة معنى آخر
غير معنى المضطهد والمهمش وهو معنى "السذاجة"، وصار التونسي ينظر إليها بهذا
المعنى دون أن يدرك حمه الهمامي هذا التحول في اللغة.
هذه
العبارة وما تبعها تخلى عنها قيس سعيد، واعتبر الشعب مهمشاً ومعطلاً ومضطهداً، وكلها
صياغات توحي بأن هناك فاعل بعينه يجب التخلص منه: منظومة الحكم، بما في ذلك تلك الأحزاب
اليسارية التي ترفع شعار الدفاع عن "الزوالي"، فظل يتحدث عن الطاقات المعطلة
والمتعلمين المعطلين وأصحاب الشهادات، وهكذا انفض الفقراء من حول حمه لأنهم في عرف
قيس سعيد مفقّرون وليسوا فقراء.
وهكذا
تحول رصيد حمه الهمامي الانتخابي والمتعاطفين معه إلى قيس سعيد، مع حشود أخرى ذات توجهات
محافظة لا تريد الانتماء لحركة النهضة، وحشود أخرى من العلمانيين والتقدميين واليساريين
الذين لا يريدون الانتماء للمنظومة.
محاكم
التفتيش وتوزيع التهم
منذ
25 تموز/ يوليو 2021، تاريخ إعلان الاجراءات الاستثنائية في تونس، وظاهرة التحريض الشعبي
لا تتوقف على أي صوت ينفرد بخطابه. فالانفراد حسم لصالح شخص واحد، هو الرئيس قيس سعيد
الذي قرر ضم كل السلطات لنفسه. أما ما تبقى من التونسيين فعليهم أن يكونوا على صوت
واحد، مهللين بالقرارات الصادرة والملوح بها فخامته.
أي أن
الشعب خرج من دولة ماكس فيبير؛ دولة المؤسسات التي تقول بتنازل الشعب عن العنف للدولة
لكي يكسب صفة المشروعية في مقابل حماية حقوقه عبر المؤسسات، لصالح دولة الرئيس، وهي
أشبه بمنطق المبايعة لشخص واحد وفرد واحد، ليتحكم في كل شيء ويحتكر كل القوة لصالح
وعد وعده للشعب بأن يخلصه من الظلم والفقر.
كلما
ظهر صوت ينتقد ما جرى أو يتساءل عما جرى وجدواه إلا وهجمت عليه الصفحات الشخصية والجماعية
والمجموعات الافتراضية، ونكل به عبر الشتم والسب والتشهير الذي لا يطاله هو فقط، بل
يمسّ أحياناً أسرته ومهنته وتاريخه وقيمته.
ابتكر
نظام زين العابدين بن علي تهمة جاهزة يرفعها في وجوه معارضيه أو منتقديه، وهي تهمة
سحرية "الإساءة لصورة تونس في الخارج". وهي تهمة معادلة للخيانة، لذلك تتولد
عليها الأحكام والملاحقات. والعبارة المركبة تصدر كلمة "إساءة" بمحمولاتها
الخطيرة وتنهيها بـ "الخارج"، ذلك الغريب وذلك العدو التاريخي، فهو الآخر
غير المؤتمن، بينما ترقد صورة تونس بمحمولاتها الأيقونية في خطر بين الإساءة والخارج.
صارت
اليوم هذه التهمة قديمة ويجب أن نبتعد عن الخطاب الاستعاري، وذهب الرئيس ومنذ حملته
الانتخابية إلى تكريس كلمة خطيرة تدغدغ الذهنية الشعبية: "الخيانة". فصار
التلويح بها صريحاً، والخيانة تهمة عريقة في الأنظمة الشمولية، تنادي فوراً التصفية
والمشانق، وتهدد أول بند من بنود حقوق الإنسان وهو "الحق في الحياة".
نشطت
هذه المدة تهمة جديدة مستلهمة من التاريخ السياسي القديم لتونس، وهي "الخوانجي"
أو "التعاطف مع النهضة"، فكل من ينتقد مسار قيس سعيد هو "خوانجي"
بالضرورة.
وقد
بدأت الحملة على أساتذة القانون، بداية بعياض بن عاشور والذي وصف ما جرى بأنه انقلاب،
ثم سناء بن عاشور، ثم جوهر بن مبارك وسليم اللغماني، وتمّت مهاجمتهم بصفتهم يسيئون
لعمل الرئيس، واعتبارهم، حسب الكثير من المهاجمين، نهضاويين، مع أن عياض بن عاشور واحد
ممن ينتقدون طوال الوقت الإسلام السياسي، حتى أنه يعتبره عقبة كبيرة أمام الديمقراطية
في كتابه الأخير "الإسلام والديمقراطية".
ويبقى
حمه الهمامي ومحمد نجيب الشابي أكثر السياسيين الذين يهاجَمون اليوم بسبب مواقفهما
من الأحداث، ولا يأتي خطابهما العقلاني إلا بمزيد الشتم والثلب من شعب الرئيس الأخلاقي
جداً، والذي لم ينس وهو يعلن تحطيم نظام برمته أن يذكر في خطابه أن من الأسباب التي
عجلت بهذا التغيير تعمد بعض النواب شتم الرئيس!
ألم
ينتبه الرئيس الذي أسقط منظومة كاملة من أجل استعادة الأخلاق الحميدة، أنه هو نفسه
الذي ينشئ دولة التقاذف والشتيمة؟ أليست هذه هي دولة زين العابدين بن العلي التي جندت
سقط المتاع في الصحافة لتشهر بالمعارضين وتهتك أعراضهم، بما في ذلك فنانو الكاريكاتور؟
أين الكاريكاتور فعلاً الذي كان يلاحق المرزوقي كل يوم؟ لماذا خفّ منذ تولي الباجي
قائد السبسي ثم اختفى نشاطه الرئاسي اليوم؟
انقلب
بعض المثقفين الذين كتبوا في قيس سعيد كتباً تنظّر لفراغه من مشروع واحد لتونس ومن
فقدانه لأهلية إدارة البلاد، وفجأة أصبح هو غودو والمهدي المنتظر، وأصبحوا يبحثون عن
طريق إليهم لتقديم ما يسند مشروعه التفردي، وهؤلاء كانوا عبر تاريخ تونس الثقافي سدنة
الديكتاتورية، ولا نرى غرابة في انقلابهم على أنفسهم لنصرة انقلاب آخر، بينما هناك
في المقابل أناس آخرون كانوا قبل مدة يبشرون برحيل قيس سعيد سريعاً وبفشله، يلتزمون
إلى الآن الصمت المطبق، ونمثل لهم بالمؤرخين والمفكرين، وعلى رؤوسهم جميعاً المؤرخ الهادي التيمومي، صاحب العديد من المؤلفات
في التاريخ التونسي والعربي، والذي كان قد صرح قبيل التحولات الجديد بأن قيس سعيد قد
حانت لحظة غروبه القاسية.
فهل
صمت هؤلاء يأتي من بداية تشكل جمهورية الخوف أم في انتظار انتهاء المدة التي حددها
لنفسه الرئيس ليكون حكمهم نزيهاً ومؤيداً بالأدلة الدامغة؟
تراجع
النقد وجمهورية الخوف
تقول
الروائية الكندية مارغريت أتوود، في روايته العمدة في أدب الديستوبيا "حكاية الجارية":
"أحياناً، يبدو الصمت خطراً خطورة الكلام".
صار
التونسيون مواطنين في الخاص، يتساءلون في الرسائل الخاصة، لم يعد العام على شبكات التواصل
الاجتماعي آمناً، فأنت معرض للثلب وللسب ولقرصنة حسابك وللوشاية وللتشهير بك، وتلفيق
التهم لك مهما كانت سمعتك وقيمتك ومهما كان خطابك عقلانياً ورصيناً.
لم تعد
أرقام الموتى اليومية تثير التونسيين ولا تدفعهم نحو نقد الحكومة، فليس هناك حكومة
أصلاً، وهم منتشون باللقاحات الرئاسية، وصفحات المؤسسات والوزارات لم يعد يدخلها الناس،
فصفحة رئاسة الجمهورية هي الصفحة الشاملة للمواطن التونسي الجديد، وفق نظام قيس سعيد.
ففي
صفحة رئاسة الجمهورية يمكنك حتى تعلم الخط العربي المغربي، فلماذا تشتت نفسك بين الصفحات
ورقم 290 قتيلاً بكورونا على صفحة وزارة الصحة ليوم 13/08/2021، لا أثر له على صفحة
رئاسة الجمهورية التي تظهر الرئيس يجلس على ركبتيه منحنياً لنساء "حي هلال"
وهن يصنعن الكوانين في عيدهن: عيد المرأة التونسية. لا أحد ينتقد إدارة الأزمة الصحية.
اللقاحات تتدفق كإعانات من الدول الصديقة، ومن عاش عاش ومن مات مات.
وصار
ذم كلمة الديمقراطية والسخرية منها وترذيلها الخطاب الرئيس في دولة الرئيس، وأصبح كل
منادٍ بضرورة المحافظة على حقوق الإنسان محل تندر وتسخيف وترذيل، وصار الفضاء كله يرشحه
بالعبارات المسجوعة التي يحفظها الرئيس بصعوبة في القصر، ويطلقها في كل خرجة من خرجاته
المنظمة.
فهل
مازال في دولة سجع الكهان من معنى لعبارة عياض بن عاشور: "خُلق الإنسان ليكون
ديمقراطياً"؟
(عن صحيفة رصيف22 التونسية)