لم يكن سهلا أن تكشف الفسيفساء عن وجهها الجميل، بعد أن شوهتها شظايا الاعتداءات العسكرية تارة والإهمال تارة أخرى، واليوم حينما أُزيل عنها الغبار كانت قد فقدت ما لم تفقده على مدار قرون، لتحكي قصة التسامح الديني في فلسطين.
إنها "الكنيسة البيزنطية" في مدينة جباليا شمالي قطاع غزة، وهي واحدة من أهم الكنائس في بلاد الشام، وتقع غربي شارع صلاح الدين، ويرجع تاريخ بنائها إلى سنة (444م)، زمن الإمبراطور البيزنطي (ثيودوسيوس الثاني) الذي حكم مابين سنة (408م ـ 450م).
يقول الدكتور غسان الشامي، أستاذ التاريخ في الجامعات الفلسطينية؛ "إن وجود الكنيسة البيزنطية في فلسطين استمر منذ الفتح الإسلامي لفلسطين سنة (637م) وحتى العصر الإسلامي العباسي زمن الخليفة (أبو جعفر المنصور)، وبذلك فقد عاصرت الكنيسة (24) إمبراطورا بيزنطيا، و(14) خليفة مسلما".
وأضاف الشامي لـ "عربي21": "وجود هذه الكنيسة إن دل على شيء، فإنما يدل على مدى التسامح الديني الذي تمتع به المسيحيون زمن حكم المسلمين لفلسطين".
وأكد أن الكنيسة اشتملت على (16) نصا كتابيّا بالكتابة اليونانية القديمة، وذلك العدد لم يوجد في أي كنيسة في بلاد الشام على الإطلاق.
وأوضح الشامي أن الكنيسة احتوت على الكثير من الزخارف الهندسية، والنباتية، والرسوم الآدمية، والمناظر الريفية، وأدوات الطبخ، وحيوانات أليفة ومفترسة من فلسطين وخارجها، وعدد من أصناف الطسنة، كما اشتملت على مناظر الصيد، والأنهار وأشجار النخيل، ولكن معظم هذه الزخارف دمرت زمن حرب الأيقونات (107 ـ 252هـ/726 ـ867م)، ولم تترك أثرا واحدا يمكن بواسطته إرجاع أو إعادة ترميم تلك العناصر الزخرفية.
وأشار الشامي إلى أن الكنيسة البيزنطية مرصوفة بـ 400 متر مربع من الفسيفساء، عالية الجودة المستوحاة من الأساطير اليونانية والرومانية.
وبُنيت الكنيسة على النظام البازيلكي ذي الثلاثة أروقة، أوسعها الرواق الأوسط، وتحتوي الكنيسة على مكان العبادة (Chabel) من جهة الشمال، وهذا طبيعة المعمار الكنسي في فلسطين.
وفي العام 2010م تم اكتشاف هذه الكنسية من خلال عمليات تنقيب تمت شمالي قطاع غزة بعد العثور على آثار هناك، وقامت وزارة السياحة والآثار الفلسطينية بتركيب مظلة لحماية الأرضيات الفسيفسائية من عوامل التعرية، وكذلك ألواح خشبية لكي يسير عليه الزائر دون المساس بهذه الفسيفساء.
الباحثة في التاريخ والآثار هيام البيطار، تحدثت لـ "عربي 21" عن تاريخ الكنيسة البيزنطية التي يعود تاريخ بنائها إلى عام 444م زمن الإمبراطور البيزنطي ثيودوسيوس الثاني، حسب آخر نص تأسيسي وجد لها.
هيام البيطار.. باحثة فلسطينية في التاريخ والآثار
وقالت البيطار: "ما زالت الكنيسة البيزنطية حتى اليوم شاهدة على الكثير من الأقوام والحقب التي مرّت على غزة، ما يدل على المكانة التي تتمتع بها، خاصة بسبب وقوعها الطريق البري الواصل بين فلسطين ومصر وسوريا".
وأضافت أن: "الزخارف الهندسية والنباتية والرسوم الآدمية والمناظر الريفية وأدوات الطبخ وللحيوانات الأليفة والمفترسة التي احتوتها هذه الزخارف من فلسطين وخارجها، يدلل على مدى أهمية هذه الكنيسة في حياة الشعب الفلسطيني على مدار العصور".
وأكدت أن معظم هذه الزخارف دمرت زمن حرب الأيقونات ما بين عامي 726- 867 م، ولم تترك أثرا واحدا يمكن بواسطته إرجاع أو إعادة ترميم تلك العناصر الزخرفية.
وأوضحت البيطار أن الكنيسة بنيت على الطراز البازليكي ذي الثلاثة أروقة أوسطها وأعلاها وأطولها الرواق الأوسط، وتفصل بين تلك الأروقة أعمدة من الرخام، لم تكن موجودة في فلسطين في أثناء بناء الكنيسة.
وأكدت الباحثة في التاريخ والآثار إلى أن لوحات الفسيفساء التي تزين الكنيسة تحتوي على أنواع عديدة من الأسماك، كسمك القريدس "الجمبري" والأسماك المطبوخة والخضراوات والفواكه، بالإضافة إلى أنواع مختلفة من الأطباق والسلال المصنوعة من القش وبعض الرموز المقدسة لدى المسيحيين، كالنجمة والصليب وغيرها من الرموز.
وأوضحت أن واجهة الكنيسة شرقي غربي، ومدخلها يحتل الجهة الغربية ومنطقة قدس الأقداس تحتل الجهة الشرقية ويوجد بها أماكن للصلاة، وتبلغ مساحة الكنيسة حوالي 800 متر مربع.
ومن جانبها، أكدت رشا جعرور مديرة مركز فرصة الثقافي أهمية نشر الوعي حول المواقع الأثرية، لاسيما الكنائس والمساجد والأديرة لما لهم من أثر في حياة الشعب الفلسطيني على مدار التاريخ.
رشا جعرور.. مديرة مركز فرصة الثقافي
وأشارت جعرور في حديثها لـ "عربي21" إلى ضرورة أن تؤدي المؤسسات والمراكز الثقافية دورا فعالا في نشر الوعي التاريخي والثقافي في صفوف الشباب.
وقالت: "يعد دور المؤسسات الثقافية دورا أساسيّا لنشر الثقافة التاريخية، باعتبار أن أحد ركائز وأهداف هذه المؤسسات، هو الحفاظ على الموروث الثقافي للمجتمع الفلسطيني والتعريف به للأجيال الجديدة، ونشره بهدف تعزيز الهوية الفلسطينية والانتماء الفلسطيني، خاصة في ظل ظروف الاحتلال الذي يسعى جاهدا لطمس الهوية الفلسطينية، وسرقة التاريخ الفلسطيني، ليضيف إلى دورنا دور مقاومة أطماع الاحتلال ومؤامراته لنسب موروثنا الثقافي لنفسه وأحقيته لهذا الموروث".
وأضافت: "الثقافة التاريخية جزء لا يتجزأ من الموروث الثقافي الذي وصل إلينا عبر التاريخ من الأجداد للآباء، بدءا من الحجر كالمباني التاريخية المميزة بفن العمارة والزخرفة الرائعة انتقالا للأزياء التراثية، وحتى الأواني القديمة شكلت مزيجا رائعا بنكهة فلسطينية عربية، ومثال على ذلك المثل الشعبي (من فات قديمه تاه)، وهو بحد ذاته يدعو ويؤكد التمسك بعاداتنا وتراثنا وأعرافنا التي تعد جزءا منا كمجتمع فلسطيني، وهذا ما يعززه دور المؤسسات الثقافية".
وحول أهمية تعريف الناس على المواقع الأثرية، بينت جعرور أن من أهداف المؤسسات الثقافية الحفاظ على الموروث التاريخي الفلسطيني، فليس السبيل إلى ذلك من خلال الجانب النظري فقط بنشر المعرفة، بل كان لا بد من الجانب العملي، وذلك من خلال الزيارات لهذه المواقع الأثرية وإشراك الناس في فهم التاريخ الحضاري والمعرفي والعمراني لهذه المواقع وفك الرموز عليها.
وأكدت أن ما جاء من رموز ورسومات وفسيفساء في الكنيسة البيزنطية بحاجة إلى تفسير أكبر وتحليل للمواطن العادي؛ لأنه يحيي قصة تاريخ شعب جذوره ضاربة في هذه الأرض.
وقالت: "كل رمز وحرف ومهنة وحرفة تعني تاريخ هذا الشعب منذ مئات السنين، وظلت منقوشة على هذه الجداران من أجل الحفاظ عليها وقراءة تاريخ أجدادنا".
وأضافت: "قطاع غزة مليء بالآثار والرموز التاريخية، وهناك ثروة تاريخية كبيرة بين جداران هذه المواقع المكتشفة من آلاف السنين، التي لم تكتشف بعد، وهي بحاجة لجهد كبير للبحث والتنقيب عنها للوصول إليها".
45 عاما على استشهاد مخيم تل الزعتر.. المجزرة ما زالت مستمرة!
الشاعر الفلسطيني حسن البحيري.. كان عاشقا ومفتونا بحب حيفا
"سكة الحجاز" مشروع استراتيجي فلسطين في قلب اهتماماته