فشلت الحكومة الإسرائيلية الجديدة، بعد ثلاثة أسابيع من تشكيلها، في أول امتحان حقيقي لها، حيث لم تستطع تمرير التمديد السنوي لقانون منع لم شمل العائلات الفلسطينية على طرفي الخط الأخضر، إذ حصل تعادل وصوت إلى جانب القانون 59 عضو كنيست، وعارضه 59، وامتنع اثنان عن التصويت. تعد هذه ضربة قوية لحكومة بينيت لبيد، التي تعتمد على تحالف هش وغير منسجم، وفقط على 61 عضو كنيست من أصل 120.
يتكون هذا الائتلاف من ثمانية أحزاب، تغطي المجال السياسي من أقصى اليسار الصهيوني إلى أقصى اليمين، ويشمل، ولأول مرة حزبا عربيا مستقلا هو القائمة العربية الموحدة، الذي هو الذراع السياسي للحركة الإسلامية الجنوبية. وتضم هذه الحكومة أحزابا تطالب بتكثيف الاستيطان وأخرى تدعو إلى تجميد الاستيطان، وحتى إلى تفكيك المستوطنات، وأحزابا تدعو إلى ضم مناطق واسعة من الضفة الغربية وأخرى تدعو إلى إنهاء الاحتلال.
في هذا الائتلاف من يتمسك بضم الجولان، وفيه من يدعو إلى الانسحاب منه، فيه من يخطط لتعميق تهويد القدس، ويعتبرها عاصمة إسرائيل الأبدية، وفيه من يريد أن تكون القدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين، وفيه من يرفع راية حقوق المثليين، وفيه من يعتبرهم شواذ وجب نبذهم.. والقائمة طويلة، لكن الذي يحسم، في نهاية المطاف، هو القرارات الفعلية للحكومة وليس المواقف “الفردية” للأحزاب، ومن الواضح أن اتخاذ القرار في الوزارة الإسرائيلية الجديدة، أمر صعب ومحفوف بالمخاطر على وجودها.
لقد حمل التصويت على هذا القانون الخطير والمهم مفارقات كثيرة، أولها أن مؤيدين للقانون صوتوا ضده، ومعارضين له صوتوا معه. لقد قاد نتنياهو المعارضة اليمينية للتصويت ضد قانون طرحه هو نفسه عدة مرات، لإحراج الائتلاف وزعزعة استقرار الحكومة. في ظل التشتت في المواقف داخل الائتلاف الحاكم، لم يكن غريبا أن لا يمر قانون منع لم شمل العائلات الفلسطينية.
الغريب فعلا هو أن نواب حزبي الموحدة وميرتس أعلنوا عشرات المرات أنهم ضد القانون مبدئيا، لم يجدوا حرجا في التصويت معه عمليا. بعد سقوط القانون تنتقل الصلاحية بخصوص منح الإقامة والمواطنة إلى وزيرة الداخلية اليمينية المتطرفة إييليت شاكيد، التي قد تجعل الأمور أصعب مما هو قائم الآن. في المقابل أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت، أنه سيطرح القانون مجددا في القريب العاجل بعد ضمان تمريره في الكنيست. قانون منع لم الشمل مهم جدا للدولة اليهودية وهو صورة المرآة لقانون العودة، الذي يمنح مواطنة فورية لكل يهودي في العالم يطلب ذلك.
ما هو قانون منع لم الشمل؟
جرى سن هذا القانون في الكنيست عام 2003، بادعاء مسنود بموقف الشاباك الإسرائيلي، بأن أبناء من عائلات تسكن داخل إسرائيل وأحد الزوجين هو من الضفة والقطاع، يشاركون أكثر في تنفيذ عمليات تفجيرية، وأن منح الإقامة، أو المواطنة لهذه العائلات هو خطر داهم على الأمن. وفي جلسة لطاقم حكومي بخصوص القانون، وبخ رئيس الوزراء الإسرائيلي حينها، أرييل شارون، ممثلي الشاباك وقال لهم: “لماذا تتذرعون بحجج أمنية، القضية أساسا ديمغرافية، ونحن نريد المحافظة على أغلبية يهودية في الدولة”. يمنع القانون عمليا منح إقامة دائمة أو مؤقتة، في الداخل وفي القدس، لفلسطيني أو فلسطينية من الضفة الغربية وقطاع غزة، وقد أضيفت إليه لاحقا خمس دول هي لبنان وسوريا واليمن والعراق وإيران.
وينص القانون على إقامة لجنة للحالات الإنسانية، لكنه يشمل بندا ينسف دورها، حيث جاء في قانون رسمي، لدولة تدعي الديمقراطية: “أن يكون قريب مقدم الطلب، هو زوج أو زوجة، أو أن يكون للزوجين أولاد مشتركون، ليست بحد ذاتها حالة إنسانية”، ما يعني أن الفلسطيني ليس كالبشر، وبُعده (أو بعدها) عن شريك الحياة ليست حالة إنسانية في عرف المشرع الإسرائيلي، المهم في الأمر أن هذا ليس موقفا عابرا لعنصري إسرائيلي، بل نص قانوني رسمي.
هذا القانون الإسرائيلي يتدخل في العلاقة بين الرجل والمرأة ويلقي بالحب الفلسطيني خارج القانون، وقد ادعى جدعون عزرا نائب رئيس الشاباك سابقا وعضو كنيست سابق عن حزب كاديما، أن الفلسطينيين على طرفي الأخضر يقيمون علاقات، ويتزوجون كجزء من مؤامرة على دولة إسرائيل. هناك اليوم 45 ألف عائلة فلسطينية، مكونة من أزواج من الداخل والقدس من جهة، ومن الضفة والقطاع ودول عربية من جهة أخرى، وهي تعاني من تبعات هذا القانون من حرمان من حقوق التأمين الصحي ورخص السياقة، والحق في التنقل وقيود الإقامة وغيرها، وهناك بالطبع عشرات الآلاف ممن امتنعوا عن الزواج خوفا من المعاناة التي ستلحق بهم إن هم تحدوا دولة اليهود بحبهم الفلسطيني.
من الصعب أن نتخيل كم من العلاقات الممكنة، حولها هذا القانون إلى غير ممكنة. يعد قانون منع لم الشمل من أخطر القوانين الإسرائيلية وأكثرها عنصريةً، وقد أجمعت كل منظمات حقوق الإنسان والغالبية الساحقة من المؤسسات الحكومية والإعلامية العالمية على أنه قانون عنصري بامتياز ولا مثيل له في العالم، ولا حتى في نظام الأبرتهايد في جنوب أفريقيا، حيث رفضت المحكمة العليا هناك قرار فصل زوج عن زوجته، تبعا لقوانين تقييد الإقامة في دولة الأبرتهايد، بالتأكيد على أن الحق في إقامة العائلة أقوى من كل هذه القوانين.
موقف القائمة الموحدة
ومن المفروغ منه أن فلسطينيي الداخل يعانون من قانون منع لم الشمل ويعارضونه بشدة، لذا كان هناك استهجان لتصويت أعضاء كنيست عرب معه للمحافظة على “لم شمل” الائتلاف الحكومي، الذي يشاركون فيه، وقد صوت إلى جانب القانون النائبان منصور عباس ووليد طه من القائمة الموحدة (الحركة الإسلامية الجنوبية) وامتنع نائبان من القائمة نفسها عن التصويت، وأيد القانون كذلك ثلاثة نواب عرب من حزبي ميرتس والعمل. وبطبيعة الحال صوّت نواب القائمة المشتركة الستة ضد القانون، كما جرت العادة في كل عام تأتي به الحكومة الإسرائيلية لتمديد سريان مفعوله.
أثار هذا الانقسام في التصويت العربي في الكنيست جدلاً صاخبا في الداخل الفلسطيني، واتهمت القائمة الموحدة بأن تصويتها وامتناعها هما تنازل عن المبادئ الوطنية في سبيل مكاسب واهية ووهمية. وما زاد الغضب على هذا الموقف، أنه لا يندرج ضمن “تكتيك” لمرة واحدة، بل هو جزء من نهج مستمر، حيث القائمة الموحدة هي عضو كامل الواجبات في الائتلاف الحكومي، وتتحمل مسؤولية كل ما يقوم به، بما في ذلك مسيرة الأعلام في القدس، وقصف غزة، واقتحام الأقصى، وصفقة مستوطنة “إفيتار” (إبقاء المستوطنة وخروج مؤقت للمستوطنين منها) وأخيرا قانون منع لم الشمل.
ليس من الواضح إلى متى تستطيع قيادة القائمة الموحدة الاستمرار في الشراكة في الائتلاف، وإن هي انسحبت، تفقد الحكومة أغلبيتها البرلمانية ويُفتح المجال أمام ائتلاف حكومي بديل أو انتخابات مبكرة. والحقيقة أن الموحدة تريد الإبقاء على حكومة اليمين الحالية، فقد ربطت مصيرها بها من حيث الحصول على ميزانيات، مقابل التصويت إلى جانب الحكومة، ويمكن الاستنتاج بأن الموحدة ستكون مضطرة للانسحاب من الحكومة فقط في حال حدوث تطورات ثقيلة الوزن تجبرها على الانصياع لإرادة الشارع الفلسطيني في الداخل، مثل “مجزرة كبرى في غزة، أو فرض تقسيم الزمان والمكان في المسجد الأقصى، أو هدم مئات البيوت في الداخل دفعة واحدة”، وقد وضعت هذا بين مزدوجين لأنني سمعته مباشرة. وإذ تدعي القائمة الموحدة أن موقفها المبدئي هو ضد القانون، فإن ذلك عذر أقبح من ذنب برأي الكثيرين.
يرفض القانون ويصوت معه
أما حزب ميرتس، الذي يمثل بقايا اليسار الصهيوني، فقد صوت إلى جانب القانون، مع أنه يعارضه وعارضه طيلة السنوات الماضية باعتباره يتعارض وحقوق الإنسان الأساسية، التي يتبجح بالدفاع عنها، وحرصا من ميرتس بأن تكون الدولة اليهودية “مثالًا للمحافظة على حقوق الإنسان”. وقبل سنوات توجه ميرتس إلى المحكمة العليا الإسرائيلية بالتماس لشطب وإلغاء القانون، باعتباره غير دستوري ويتنافى مع المبادئ، التي تتضمنها “قوانين الأساس”، التي لها مكانة دستورية في إسرائيل. ومع ذلك صوت نواب ميرتس الستة، وبينهم اثنان عرب (عيسوي فريج وغيداء ريناوي)، مع القانون.
القاعدة الانتخابية لميرتس لم تغضب كثيرا لهذا الابتعاد عن المواقف والمبادئ المعلنة لسبب وحيد وهو، كراهية نتنياهو والخوف من عودته إلى الحكم إذا سقطت الحكومة. ميرتس أيضا عارض بشدة مسيرة الأعلام وصفقة مستوطنة “أفيتار”، ولكنه بقي في الحكومة وفضل المحافظة على الائتلاف القائم خوفا من بعبع نتنياهو.
إلى متى يستطيع ميرتس البقاء في الحكومة؟ هل يمكنه الصمود في حكومة يطغى عليها الطابع اليميني العنصري، وهو الذي يتغنى ليل نهار بما يصفها بمبادئ اليسار وحقوق الإنسان وإنهاء الاحتلال وحل الدولتين؟ هنا برأيي أن ميرتس يختبئ خلف القائمة الموحدة بكل ما يخص فلسطينيي الداخل ولن يعارض ما توافق عليه أو تسكت عنه.
في المقابل تختبئ الموحدة خلف ميرتس بكل ما يتعلق بالاستيطان والاحتلال، وهي لن تكسر الجرة إذا لم يكسرها ميرتس. ومع ذلك فإن قدرة ميرتس على “بلع الضفادع” محدودة مهما كانت شهيته للسلطة كبيرة، فلديه قضايا تهمه أكثر من غيره مثل قضية رفض الإكراه الديني بخصوص يوم السبت، وتمثيل العلمانيين في المجتمع الإسرائيلي وقضية المثليين (رئيس الحزب نيتسان هوروفيتس هو مثلي معلن)، وميرتس قد يكون في مرحلة ما مصدرا لانكسار وسقوط الحكومة.
تجربة شخصية
كثيرا ما نجد، نحن الفلسطينيين ومن معنا، صعوبة في إقناع العالم بما نعانيه في ظل الأبرتهايد الإسرائيلي، ولكني ومن تجربة شخصية وجدت أن أقصر وأسهل وأنجع الطرق للإقناع هي تقديم وثائق رسمية داعمة لما نقول. ولعل من أقوى الدلائل على النظام العنصري في إسرائيل هو نص قوانين مترجمة بدقة من العبرية إلى الإنكليزية، وقد وجدت أن ترجمة قانون منع لم الشمل وقانون القومية مقنعة بلا شروح لأي صاحب ضمير في هذا العالم. الكثيرون لم يصدقوا ما قرأوه والكثيرون قالوا “هذا أبرتهايد”.
إلى بيتا ذهبت ورأيت... هنا بيت القضية