نشرت مجلة "كريستيان ساينس مونيتور" الأمريكية تقريرا سلطت فيه الضوء على حالات من العنف المستمر للشرطة في تونس، رغم طي صفحة النظام البوليسي قبل سنوات.
وبينما تتعامل مع جائحة كوفيد-19، بحسب الصحيفة، فإن الديمقراطية الفتية في شمال أفريقيا تتم محاسبتها شعبيا على سمة من ماضيها وحاضرها: عنف الشرطة في المجتمعات المهمشة.
ووفق التقرير، الذي ترجمته "عربي21"، فإنه في مواجهة الجمود السياسي، ونقابات الشرطة القوية التي تعرقل الإصلاحات، ونظام المحاكم الذي يدعم ثقافة الإفلات من العقاب، يستغل شبان ونشطاء الطبقة العاملة روح الحركات الاحتجاجية في أمريكا وفرنسا لإبقاء القضية في طليعة النقاش العام.
وفي الوقت ذاته، يعيد التونسيون تقييم علاقة ضباط الشرطة بالمواطنين من الطبقة العاملة، الذين يقولون إنهم عانوا طويلا في صمت.
وتقول يمينة الزغلامي، النائب عن منطقة سيدي حسين، التي توصف بأنها "مهمشة": "صحيح أن الإفلات من العقاب موجود.. الإفلات من العقاب يجعل الناس يفقدون الثقة في رجال الشرطة والسلطات، وخاصة الشباب الذين آمنوا بالثورة".
وأضافت البرلمانية عن حزب النهضة: "يحتاج كل من القضاء والأمن والشرطة إلى الإصلاح وإضفاء الطابع الديمقراطي عليه".
واندلعت الاحتجاجات في سيدي حسين لأول مرة في أوائل حزيران/ يونيو مع تداول فيديو لقتل الشرطة أحمد بن عمار، وهو من سكان الحي ويبلغ من العمر 30 عاما والذي تم اعتقاله للتفتيش عن المخدرات أثناء سيره مع خطيبته.
وعندما رفض بن عمار الخضوع للتفتيش، ضربته الشرطة حتى سقط جسده بلا حراك. وأعلن فيما بعد عن وفاته في حجز الشرطة.
وانتشرت الاحتجاجات على نطاق أوسع في جميع أنحاء تونس إثر حادثة أخرى بعد 24 ساعة فقط، عندما احتجزت الشرطة صبيا يبلغ من العمر 15 عاما في نفس الحي.
وفي مقطع فيديو التقطه المارة، قامت الشرطة بتجريد الصبي من ملابسه وضربه بوحشية على جانب الطريق في وضح النهار، وجعلته يمشي عاريا وأخذته في سيارة تابعة للفرقة.
وأثار سن الضحية والإذلال العلني والوقاحة المطلقة غضب التونسيين عبر الطيف السياسي ومن جميع الطبقات الاقتصادية.
وقال رئيس الوزراء ووزير الداخلية بالوكالة، هشام المشيشي، الذي تعرض لضغوط من أجل تقديم إجابات تحت التهديد بإجراء تصويت بحجب الثقة في البرلمان، إن الضباط المتورطين في الحادث تم إيقافهم عن العمل وسيحالون إلى المحاكم. ومع ذلك، فإن ثقة الجمهور وتوقعات المساءلة في الحضيض.
ويشير السياسيون التونسيون إلى ما يصفونه بالحوادث "المعزولة"، ويتحدثون عن عدد قليل في صفوف أفراد الشرطة غير المجهزين للتعامل مع المتظاهرين ومثيري الشغب في الحي الصعب.
لكن السكان والمدافعين عن حقوق الإنسان يقولون إن هذا جزء من ثقافة عميقة الجذور من الانتهاكات وإفلات الشرطة من العقاب، الأمر الذي يترك سكان الطبقة العاملة خائفين من الشرطة، قلقين من أنهم قد لا يعودون إلى بيوتهم أحياء، لمجرد كونهم يعيشون في المنطقة الخطأ.
وسجلت الرابطة التونسية لحقوق الإنسان منذ كانون الثاني/ يناير الماضي 2000 شكوى تتعلق بانتهاكات الشرطة على مستوى البلاد، ثلثها بحق قاصرين.
ورفعت عائلات سبعة أشخاص قُتلوا في عنف مزعوم للشرطة دعاوى قضائية على مدى السنوات الأربع الماضية، لكن المحاكم أخفقت في إحالة إصدار لائحة اتهام أو حكم واحد، بحسب المنظمة الحقوقية.
اقرأ أيضا: تجدد الاحتجاجات بتونس العاصمة إثر وفاة شاب أوقفه الأمن
ويتعارض عدم وجود إجراءات قانونية مع المجتمع المدني التونسي الزاخر والذي يوثق الانتهاكات ويقدم المشورة القانونية. وتقدم الهيئة الوطنية للوقاية من التعذيب المفوضة بموجب الدستور تفاصيل الانتهاكات في التقارير السنوية إلى البرلمان.
ولدى التونسيين تاريخ معقد مع الشرطة، بحسب الصحيفة، فقد كانت الأمن والشرطة السرية ذراعا منفصلة للدولة لا تخضع إلا للديكتاتور السابق، زين العابدين بن علي، الذي استخدم الأجهزة الأمنية لتعزيز قبضته على السلطة، والقضاء على الخصوم السياسيين، وترهيب المنتقدين.
وفي الأشهر التي أعقبت ثورة 2011، حلت الحكومة المؤقتة الشرطة السرية وأقالت العشرات من كبار المسؤولين. لكن الإصلاحات توقفت عند هذا الحد.
وبدون حماية الرجل القوي المخلوع، استغلت قوات الأمن حريات المجتمع المدني الجديدة في تونس وشكلت نقابات شرطة: 100 نقابة مختلفة في عام 2011 وحده.
وعلى الرغم من أن نيتهم المعلنة كانت الدعوة إلى تحسين الأجور والمعاشات التقاعدية، إلا أن النقابات الوطنية في السنوات الأخيرة قامت باستعراض عضلاتها، بالحشد والتهديد بوقف العمل لمنع محاولات إصلاح الشرطة، والحفاظ على المسؤولين في عهد ابن علي في مناصبهم، وحماية زملائهم من الملاحقة القضائية، فشكلوا جدارا أزرق يمتد عبر تونس.
ومع قلق الفصائل السياسية التونسية من مواجهة نقابات الشرطة، نمت ثقافة الإفلات من العقاب.
ويرفض العديد من الضحايا تقديم شكاوى خوفا من اتهامات جنائية ملفقة أو مضايقات مدى الحياة من نقابات الشرطة.
ويشير النشطاء إلى دور لمواد في قانون العقوبات التونسي يعود تاريخها إلى الاحتلال الاستعماري الفرنسي وتتعارض مع دستور ما بعد الثورة لعام 2014، الذي يكرس حقوق الأفراد وحقوق الإنسان.
وتسمح إحدى مواد الدستور ذات الصياغة الغامضة للشرطة بتوجيه الاتهام إلى الأشخاص بتهمة "الاعتداء على ضابط"، وهو ما يستخدمه بشكل متزايد بعض الضباط لترهيب الضحايا.
ويقتصر تعريف التعذيب على "العنف المستخدم لانتزاع الاعتراف"، وفق الصحيفة.
ومع تعثر محاولات الإصلاح في البرلمان، يبدو أن القضاء خائف ومتردد في العمل ضد قوة الشرطة التي يعتمدون عليها، مع اقتحامات متعددة من ضباط الشرطة للمحاكم وإطلاق سراح الضباط الذين يواجهون المحاكمة.
لكن الاحتجاجات والنشاط مستمر، وهو مستوحى من احتجاجات جورج فلويد في أمريكا وتظاهرات أداما تراوري في فرنسا، لتسليط الضوء على القضية وجذب انتباه المجتمع الدولي والدول التي تعتمد عليها تونس للحصول على الدعم المالي والعسكري.
وتعمل المنظمة الدولية لمناهضة التعذيب مع أعضاء البرلمان لتوسيع تعريف التعذيب في القانون التونسي.
ويقول مشرعون مثل "زغلامي" إنهم يدفعون الحكومة أيضا إلى "التركيز على نوع العلاقات اليومية والتفاعلات التي تقوم بها الشرطة مع الناس العاديين في سيدي حسين" وغيره من أحياء الطبقة العاملة.
وترى النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين، التي تتصدر توثيق الانتهاكات والنشاط، أن هنالك أملا في التغيير.
وتنقل الصحيفة عن أميرة محمد، نائبة نقابة الصحفيين، قولها: "بالرغم من أن بعض رجال الشرطة يسيئون للناس، إلا أننا لسنا في نفس الوضع الذي كان عليه في عهد ابن علي.. هناك تقدم يحتاج ببساطة إلى مزيد من الدعم والقوانين والتدريب لجعل الشرطة على دراية بثقافة حقوق الإنسان.. هناك تغيير. لكنه ما زال غير مكتمل".