في آب (أغسطس) من العام 1998، هاجمت طالبان مدينة مزار شريف التي تقع بالقرب من الحدود مع طاجكستان وأوزبكستان وتركمانستان. كانت المدينة آنذاك تعدّ أحد معاقل تحالف الشمال المناوئ لحركة طالبان بقيادة أحمد شاه مسعود. وقد تلقى التحالف دعماً من قبل الحرس الثوري الإيراني وقاسم سليماني لقتال طالبان.
قُتل في ذلك الهجوم 10 دبلوماسيين إيرانيين وصحفي. ارتفعت الأصوات حينها داخل إيران للانتقام، وكانت هناك دعوات للتحضير لهجوم عسكري ضد أفغانستان. يقال حينها إنّ أغلبية من المسؤولين الإيرانيين السياسيين والعسكريين دعمت مقترح احتلال أفغانستان وحشد حوالي 100 ألف جندي إيراني على الحدود مع البلاد، لكنّ المرشد الأعلى رفض ذلك على اعتبار أنّ الهجوم قد يتحوّل إلى فخ لتوريط إيران.
لقد مثّل ذلك المشهد من التاريخ ذروة التوتر والتصعيد بين طالبان وإيران، ولم يضطر الإيرانيون إلى الإنتظار طويلاً حتى ينتقموا. ففي عام 2001، قام النظام الإيراني بمساعدة الولايات المتّحدة على احتلال أفغانستان والإطاحة بنظام طالبان، مقدّماً خدمات جليلة لإسقاط العدو المشترك. حجم الدعم الإيراني على المستوى السياسي والدبلوماسي والعسكري كان صادماً للجانب الأمريكي.
قام قاسم سليماني شخصياً بحث الأمريكيين على مهاجمة مواقع بعينها بعد تزويدهم بقائمة من الأهداف الحساسّة داخل أفغانستان ومساعدة السي أي إيه على إقامة قواعد في بنجشير وبغرام. أمّا الرجل الثاني في حلقة التعاون الإيراني-الأمريكي ضد طالبان، فقد كان جواد ظريف وزير الخارجية الحالي والذي شغل حينها منصب نائب وزير الخارجية لشؤون المنظمات الدولية.
بعد احتلال أفغانستان، وقيام إيران بترسيخ نفوذها داخل البلاد من خلال التعاون مع الولايات المتّحدة الأمريكية والحكومة الأفغانية وأقليّة الهزارة الشيعية، بدأت إيران بمساعدة طالبان على استهداف الأمريكيين! تمّ تزويد الطالبان بالسلاح واستضافوا بعض قادتهم بين الحين والآخر لإجراء المباحثات وعقد الصفقات لدرجة أنّ زعيم الحركة الملا أختر منصور كان قد اغتيل بمسيرة أمريكية أثناء عودته من إيران، ومن غير المعروف ما إذا كان الإيرانيون قد وشوا به حينها مقابل مكاسب معيّنة أم إنّه قتل جرّاء مراقبة دقيقة.
لكن وبينما كانت طهران تدعم طالبان ضد واشنطن وتروّج لدورها في محاربة الاحتلال الأمريكي، كانت تسوّق في نفس الوقت أنّها ساعدت الولايات المتّحدة والعالم على محاربة التطرف والإرهاب "السنّي". وبموازاة هذا وذاك تابعت تجنيد المزيد من الشيعة الأفغان للقتال ضمن مجموعات أنشأها الحرس الثوري وتنشط في خدمة أجندة إيران التوسعية في سوريا بشكل أساسي علاوةً على غيرها من البلدان. بهذا المعنى، كانت السياسة الإيرانية كالمنشار، تأكل الخشب الأمريكي والأفغاني ذهاباً وإياباً، وتبلغ كل طرف بأنّها ساعدته على هزيمة الطرف الآخر فيما تتفاوض عليه مع الخصم الآخر!
بعد احتلال أفغانستان، وقيام إيران بترسيخ نفوذها داخل البلاد من خلال التعاون مع الولايات المتّحدة الأمريكية والحكومة الأفغانية وأقليّة الهزارة الشيعية، بدأت إيران بمساعدة طالبان على استهداف الأمريكيين!
في شباط (فبراير) من العام 2020، ونتيجة لمباحثات طويلة في الدوحة، توصّلت كل من الولايات المتّحدة وطالبان إلى اتفاق يقضي بشكل أساسي بانسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان من خلال جدول زمني، مقابل تعهّد الحركة بعدم السماح لنشاط جماعات إرهابية واستهداف لمصالح الولايات المتّحدة وحلفائها، بالإضافة الى إقامة تسوية سياسية بين الحكومة وطالبان تهدف إلى التحضير لمرحلة ما بعد الانسحاب الأمريكي.
إيران عارضت الاتفاق لأنّه يحدّ من قدرتها على استغلال الطرفين ضد بعضهما البعض من جهة، وتحقيق أهدافها من جهة أخرى. كما أن بإمكان الاتفاق فيما لو نجح أن يؤدي مستقبلاً إلى علاقات أمريكية أفضل مع طالبان وهذا ليس من مصلحة إيران. ويُعتقد أنّ الجانب الإيراني كثّف من جهوده الدبلوماسية ونشاطاته العسكرية هو الآخر للإستعداد لمرحلة ما بعد الانسحاب سيما مع صعود قاآني إلى سلّم قيادة فيلق القدس خلفاً لقاسم سليماني. ومن المعروف أنّ قاآني كان مسؤولاً قبل ذلك عن ملف أفغانستان والتواجد الشيعي في أفغانستان وباكستان بشكل أساسي ونفوذ إيران في هذه المنطقة.
وبعد الاتفاق الأفغاني ـ الأمريكي، تابع الجانب الإيراني دعمه لطرفي النزاع المحلّيين (الحكومة وطالبان) على أمل إبقاء الخلاف قائما بينهما. في نهاية العام 2020، وصف ظريف حركة طالبان بأنّها حركة إرهابية متطرّفة ترتكب أعمال عنف ومصنّفة من قبل المجتمع الدولي بأنّها جماعة إرهابية محظورة، علماً بأنّ المسؤولين الإيرانيين لم يخفوا علاقاتهم مع طالبان لاسيما بدءاً من العام 2018. ظريف نصح الحكومة الأفغانية كذلك بالإستعانة بميليشيات "فاطميون" الطائفية ـ المكوّنة في الغالب من لاجئين أفغان شيعة قام الحرس الثوري بتجنيدهم للقتال في سوريا ـ واستخدامهم ضد المتطرفين في أفغانستان.
بعد الاتفاق الأفغاني ـ الأمريكي، تابع الجانب الإيراني دعمه لطرفي النزاع المحلّيين (الحكومة وطالبان) على أمل إبقاء الخلاف قائما بينهما.
الغريب أنّ حركة طالبان وبالرغم من هذه المواقف الإيرانية، رفضت حضور مؤتمر السلام الأفغاني الذي كانت الحكومة التركيّة تعدّ له في إسطنبول في شهر نيسان (أبريل) الماضي لجمع الأطراف المتخاصمة بحجّة أنّها غير جاهزة لحضوره في هذا التوقيت وأنّ أجندته غير واضحة في حين أنّها قبلت حضور اجتماعات أفغانية ـ أفغانية دعت إليها إيران مؤخراً ليلقي ظريف على مسامعهم أثناء الاجتماع معزوفة مساعدة الشعوب على التخلّص من الاحتلال.
وفيما يبرر البعض هذا التحوّل في العلاقة بين طالبان وإيران من خلال بوابة ما يقول إنّها "مصالح مشتركة"، فغالباً ما ينتهي الامر بأن يتم توظيف مثل هذه الجماعات في خدمة الجانب الإيراني، وربما لن يتردّد الإيرانيون في مساعدة واشنطن على الإطاحة بطالبان مرّة أخرى إذا ما كان ثمن ذلك حصول صفقة مع الولايات المتّحدة الأمريكية.
T: @alibakeer
العقبات المنتظرة في وجه دور تركي محتمل في أفغانستان
الدوافع الاستراتيجية لمقترح تركيا حماية مطار كابول في أفغانستان
فك شيفرة خطاب مصر الدبلوماسي في التقارب مع تركيا