لم تجد الدولة اللبنانية من رد على الانتقادات العلنية للسفيرة الفرنسية، آن غريو، للحكومة وللفرقاء السياسيين من ورائها، غير قطع البث الحي عن كلمتها وحجبها عن الجمهور. كان ذلك في لقاء حضره عدد من السفراء في مقر الحكومة بدعوة من رئيسها بهدف "إنقاذ اللبنانيين من الموت ومنع زوال لبنان". لبنان الذي كان منارة للثقافة والفن والترفيه تحول اليوم إلى مجرد أطلال وخراب.
"الإفقار القاسي اليوم هو نتيجة متعمدة لسوء الإدارة والتقاعس عن العمل لسنوات وليس نتيجة حصار خارجي، بل أنتم من تتحملون جميعا المسؤولية ومعكم الطبقة السياسية المتعاقبة لسنوات. تلك هي الحقيقة". كان هذا رد السفيرة الفرنسية التي ما كان لها أن تتخلى عن اللغة الديبلوماسية المعتادة لمن في منصبها، لولا إحساسها بهوان من تخاطبه أمام "شعبه" ومواطنيه. ولأن الهوان وصل مداه، فقد أضافت السفيرة بالقول: "أنتم بعنادكم وجشعكم وأنانيتكم وامتناعكم عن تشكيل الحكومة تحاصرون شعبكم"، وهو كلام ألِف حسان دياب وغيره من المسؤولين العرب سماعه من سفراء الدول الغربية الحاضنة لفسادهم، لكنه اليوم تحول من التقريع السري إلى العلنية أمام الأشهاد.
لبنان ينتظر الفرج من سفيرتي الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وهما يحملان لواء "الدفاع عن الشعب" عند الكفيل السعودي، الذي يبدو أنه رفع يده عن تقديم العون؛ عقابا لكل الطبقة السياسية بالبلاد، لما اعتبره "تجاوزات" و"نكران جميل" وهو الذي كان ينتظر منّا واستكانة وتذللا. كيف لا وهو القادر على اعتقال رئيس الوزراء وإذلاله قبل أن يأتي إليها جاثيا متوسلا العفو والدعم، بعد وصلة "عنترة" مألوفة على "طائفته" وأتباعه باعتباره المنقذ من الضلال.
تعتقد الدولة اللبنانية أنها بقطع البث عن المنتقدين وحجب صيحات الاستنكار وآهات الألم المنتشرة بربوع البلاد، يحلون الأزمة أو يمنعون المواطن من الحقيقة، وهو الذي يتلظى بنارها كل يوم. عين "المسؤولين" المتألهين، بدعم أنصارهم المقهورين، لم تكن يوما على مصلحة الوطن والمواطن، بل على ترقيع بكارة سياسية مشروخة وكرامة مهدورة وعجز بيّن عن إيجاد الحلول بدلا من تسول الدعم الدولي.
"دولة السفراء" حقيقة واقعة بالبلدان العربية الفاقدة لسيادتها. فإلى السفارات تحج الطبقة السياسية، "حاكمة" كانت أو "معارضة"، لتقديم آيات الولاء واستدار الدعم والمدد في مواجهة الخصوم. داخلها يتلقون التوبيخ على ما فات ويزودون بالتعليمات لما هو آت. فسفراء الدول الغربية ليسوا فقط من يعينون بالصفة، بل هم آلاف مؤلفة منتشرون في كل الوزارات والإدارات والشركات والمنظمات الأهلية والجامعات ومراكز "القرار"، يشتغلون بمقابل أو دونه لتمرير الأجندات ورهن السياسات واستنزاف الثروات وإرساء الصفقات قرابين على مذبح السعي لامتلاك الشرعية، أو البحث عن دور ممكن في زمن الترضيات.
"دولة السفراء" حقيقة واقعة بالبلدان العربية الفاقدة لسيادتها. فإلى السفارات تحج الطبقة السياسية، "حاكمة" كانت أو "معارضة"، لتقديم آيات الولاء واستدار الدعم والمدد في مواجهة الخصوم. داخلها يتلقون التوبيخ على ما فات ويزودون بالتعليمات لما هو آت.
من هناك يخرجون عراة تفضحهم التسريبات المتعمدة في أغلبها، قبل أن يتدثروا ببدلاتهم الرسمية الأنيقة لتصريف فائض العجز والمهانة المتضخمين في آناهم المجروحة، قرارات مهينة للشعوب أو ممارسات فاسدة تحتمي بغياب القانون وبشرعة الغاب التي أسسوا لها جيلا عن جيل.
الهزائم الكبرى التي تحولها الأبواق الرسمية إلى "انتصارات" ولو صغيرة، عدوى منتشرة بربوع الجغرافيا العربية لا تسلم منها دولة ولا يستغني عنها نظام. ففي الوقت الذي ينتظر فيه المواطن العربي ممن فُرِضوا عليه حكاما أو انتُخِبوا تضليلا، السعي لإرساء دعائم دولة القانون وبناء أسس انطلاقة اقتصادية تحقق الأهداف المرسومة تنمية مستدامة وعدالة اجتماعية، تكتفي السلط الحاكمة بأكاذيب تهلل لمشاريع فرعونية لا نتائج لها على الأرض، غير صور الافتتاحات ولوحات حجر الأساس "المخلدة" للأراجيف.
في المغرب، تصر الدولة على محاكمة الصحفيين في حالة اعتقال؛ إمعانا في "إهانتهم" لتجرئهم على ما تعدّه خطوطا حمراء، وتصدر حكما بالسجن النافذ على طالبة نشرت على حسابها على مواقع التواصل الاجتماعي تحريفا لسورة قرآنية كريمة، في خطوة طائشة تستحق التقويم والنصح بديلا عن عقوبة سجنية تفوق الثلاث سنوات، وتحرم طالبة أخرى من شهادة البكالوريا لمجرد الشك في ارتكابها "الغش" في مادة الفلسفة، وهي المشهود لها بالتفوق في مسارها الدراسي.
هي "انتصارات" صغيرة تصرف النظر عن العبث والتخبط في معالجة الملفات الأهم المؤثرة بشكل مباشر على حياة المغاربة وعلى أمنهم الروحي والقومي، فعندما تحتاج وزارة الخارجية، المرتهنة على ملفات خطيرة ليس أقلها ملف الصحراء المغربية، لأيام كاملة لتحرير بيان "واضح" يحدد الإجراءات المعدلة للدخول إلى التراب الوطني، ابتدأت بتغريدات "غريبة" على الموقع الرسمي للوزارة قبل الحذف، ومن ثَمّ تم التراجع عن محتواها، بعد أن انتشرت بين أفراد الجالية المقيمة بالخارج انتشار النار في الهشيم، وأحرقت أعصابهم وجيوبهم دون أن يحاسب الواقفون وراءها، يصبح الحديث عن ربط المسؤولية بالمحاسبة مجرد شعارات.
وعندما تصر الدولة ذاتها على "حجر" صحي في فنادق مفتوحة للعموم يختلط فيها المحجورون بالزوار والسياح، فهي بذلك تؤسس لبؤر وبائية وتعرض حياة مواطنيها وضيوفها لخطر الإصابة ونقل العدوى للمجتمع المحلي والدولي. لكن كل تلك المخاطر تهون أمام الرغبة في تسجيل "انتصار" وهمي تنقله وكالات الأنباء، وتتبجح به الإعلانات الحكومية التي ما فتئت تتحدث عن النجاح في مواجهة الجائحة، ولو استبدلتها منذ أيام بـ "التحذير" من انتكاسة قادمة تحاول التملص منها وتحميل المواطن وزر أرقامها ومآسيها.
وفي الجزائر، هروب إلى الأمام في مواجهة مطالب الحراك واعتقالات لهؤلاء تليها إفراجات عن أولئك، وإجراء الانتخابات بمن حضر فـ "المشاركة غير مهمة" حسب الرئيس الجزائري. الأهم هو تشكيل حكومة بـ "أغلبية رئاسية" وهمية، هي أقلية واضحة بالنظر لحجم المقاطعة الشعبية للاستحقاق الانتخابي، وهي بذلك "انتصار" ديمقراطي يتوهمه الحكام.
في "إسرائيل"، صادرت سلطات الاحتلال حمارا بدعوى استخدامه في أعمال للمقاومة الفلسطينية. الخبر يلخص حال المنطقة، التي زرع فيها الكيان بفعل استعماري وتوطدت جذورها بفعل الخيانة، حيث يبدو حمار السلطة المحتلة للأرض بفلسطين وللشعوب في بقية البلدان واقفا في العقبة
وهم يسري على "الاستثناء التونسي"، الذي تحول نقمة على البلاد، حيث يفعل الفيروس الأفاعيل ويستشري بين المواطنين المتروكين لحالهم دون علاج أو لقاح. الطبقة السياسية مشغولة بالصراع الدنكيشوتي المفتعل، الذي يتخذ طابعا "دستوريا" حينا وأيديولوجيا أحايين أخرى.
ويتواصل بليبيا حيث البلاد مقسومة شيّعا ولا اجتماع لأبنائها على الطاولة إلا في أراضي الجيران والأغراب، في وقت لا يزال فيه خليفة حفتر يرسل تهديداته الواهمة باحتلال طرابلس وبسط "سيادته" عليها، ويجعل من تقديم "رئيس الوزراء" التحية العسكرية لـ "مقامه" شرطا للسماح لطائرته بالإقلاع. حفتر المعتد بـ "قوته" في بلاد عمر المختار، مستسلم خانع للعدالة الأمريكية التي رفعت عنه الحصانة، وجعلت من محاكمته على الجرائم التي ارتكبتها مليشياته المسماة "جيشا وطنيا" مسألة وقت ليس إلا.
وفي مصر، يختبئ النظام الانقلابي من عجزه وهزائمه المتواصلة في مواجهة التهديد الوجودي الممثل في سد النهضة، رغم استنجاده بالأفلام الدعائية للتدريبات العسكرية المشتركة، والتصريحات العنترية وطلب السند من الدول الغربية والمنظمات الأممية دون جدوى، بتقديم منع صحفيين من مزاولة نشاطهم الإعلامي بتركيا، "المستسلمة" لابتزاز القاهرة ضدا على المبادئ التي طالما قدمتها "تبريرا" للنشاط الإعلامي المعارض بأراضيها، "انتصارا" أمام أنصاره إن بقي له أنصار، مع عروض محاكمات يحضرها شيوخ السلفية لزوم الترفيه.
وفي السودان وغيرها عرض متواصل للنكوص وتكريس الارتهان للخارج. أما في دول "الوفرة" في الخليج، فمصالحة يتبعها صراعات شخصية وارتماء في أحضان الكيان، ترهن مستقبل الشعوب والمنطقة للأهواء، وهلم أوهاما يعدّها أصحابها "انتصارات"، وتروج لها الأبواق الدعائية في "قنوات الصرف" الإعلامية وحسابات التغريد.
في "إسرائيل"، صادرت سلطات الاحتلال حمارا بدعوى استخدامه في أعمال للمقاومة الفلسطينية. الخبر يلخص حال المنطقة، التي زرع فيها الكيان بفعل استعماري وتوطدت جذورها بفعل الخيانة، حيث يبدو حمار السلطة المحتلة للأرض بفلسطين وللشعوب في بقية البلدان واقفا في العقبة بل مادّا رجليه على طول الجغرافيا العربية، ولا مجال أمام ذلك الواقع غير إعلان "الانتصارات" الصغيرة التي لا تعدو أن تكون مجرد أوهام وحروب استنزاف ضد طواحين الهواء.
يوم تقابل النقيضان في أرض السودان
وحدَها دولة الفساد باقيةٌ وتتمدّد