لا مفاجأة في إعلان فوز
إبراهيم رئيسي بالانتخابات الرئاسية التي أجريت في
إيران هذا الشهر، بعدما كان المرشح الوحيد تقريباً في ما يشبه الاستفتاء، إثر إقصاء منافسيه الأقوياء الجديين، في خطوة فضحت طبيعة النظام الاستبدادي الحاكم، علماً أن هذا الإقصاء الفظّ يتعلق أساساً بترتيبات مرحلة ما بعد علي خامنئي؛ الذي كان أيضاً رئيساً للجمهورية قبل أن يرتّب له الراحل هاشمي رفسنجاني وصوله إلى منصب المرشد، وهو ما يفعله الآن الحرس المتنفذ والقوي مع الرئيس الجديد.
لتسهيل وصول إبراهيم رئيسي إلى
الرئاسة وربما منصب المرشد فيما بعد، أقصى ما يعرف بمجلس صيانة الدستور غير المنتخب، وبحجة عدم الأهلية عشرات المرشحين (33 من أصل 40)، بعدما لم يلتفت أصلاً إلى ملفات مئات منهم (550). أقصى تحديداً ثلاثة مرشحين أقوياء كان بإمكانهم منافسة رئيسي بل وحتى التغلب عليه، وهم الرئيس السابق أحمدي نجاد، المحافظ المتشدد الذي بات معتدلاً بعد مغادرته السلطة، ورئيس البرلمان السابق المحافظ المتشدد علي لاريجاني، ونائب رئيس الجمهورية الحالي الإصلاحي إسحاق جهانغيري.
إقصاء المجلس للمرشحين الأقوياء لم يؤكد فقط طبيعة النظام الاستبدادي، وإنما نسف أسس العملية الديمقراطية، وأفرغ الانتخابات من محتواها، وأثار أسئلة وعلامات استفهام كثيرة عن حقيقة أهلية هؤلاء المسؤولين السابقين، وكيف تولّوا حتى فترة قريبة (والبعض منهم لا يزال) مناصب مركزية ومهمة
إقصاء المجلس للمرشحين الأقوياء لم يؤكد فقط طبيعة النظام الاستبدادي، وإنما نسف أسس العملية الديمقراطية، وأفرغ
الانتخابات من محتواها، وأثار أسئلة وعلامات استفهام كثيرة عن حقيقة أهلية هؤلاء المسؤولين السابقين، وكيف تولّوا حتى فترة قريبة (والبعض منهم لا يزال) مناصب مركزية ومهمة في الجمهورية الإيرانية.
بتفصيل أكثر، يمكن التساؤل مثلاً: هل فقدَ نجاد أهليته بعد مغادرة المنصب؟ خاصة أنه تولى الرئاسة لفترتين متتاليتين ولثماني سنوات متصلة (2005-2013)، مع الانتباه إلى أنه كان محسوباً على التيار المحافظ المتشدد الذي وصل بفضله إلى الرئاسة، ثم تحوّل بعد مغادرته المنصب إلى معتدل وحتى إلى معارض لما يسميه تحالف منظومة الفساد والأمن، علماً أن نجاد كان قد استفاد من أول انتخابات "معلّبة" فعلياً في العام 2009، والتي تم تزويرها لصالحه رغم تهنئة وزير الداخلية لمنافسه آنذاك مير حسين موسوي، قبل أن يتدخل الكمبيوتر الشهير وسيئ الصيت لوزارة الداخلية ويبدّل النتائج بضغطة زر. ثم انقلب نجاد على رعاته وداعميه ومزوّري الانتخابات، معتبراً نفسه أقرب منهم إلى الناس وحاجاتهم، وأنه يملك الشعبية اللازمة لتجاوزهم وعدم الاعتماد عليهم، وقرر أخيراً العزوف وعدم الاقتراع محذّراً من وصول أحوال البلد الاقتصادية والاجتماعية إلى حافة الانهيار.
بدا نجاد معتدلاً جداً في السنوات الأخيرة إثر مغادرته السلطة - على طريقة المسؤولين الإسرائيليين والغربيين السابقين - ودعا إلى إصلاحات داخلية جذرية ضد تحالف المنظومة الأمنية الفاسدة لإنقاذ البلد، كما بدا منفتحاً بل متحمساً لفكرة الحوار مع دول الخليج العربي بنيّة حسنة وجدية، بدون غطرسة أو عنجهية، كما يفعل الحرس والمتطرّفون الحاكمون من أدواته.
أما علي لاريجاني فقد كان رئيساً للبرلمان إلى ما قبل شهور قليلة فقط، وعضواً مركزياً في المؤسسة الحاكمة، بل وتم تكليفه بمهام سياسية ضمن تقسيم مسؤوليات قائد الحرس الراحل قاسم سليماني. كما أن عائلته متنفذة في المنظومة السلطوية الحاكمة، وأخاه ما زال رئيساً للقضاء في النظام الاستبدادي (تولّى المنصب خلفاً لرئيسي نفسه)؛ عائلة اتهمها أحمدي نجاد علناً بالفساد في سجال شهير جرى تحت قبة البرلمان، وهو ليس سبب الإقصاء طبعاً، بل تم تفضيل إبراهيم رئيسي عليه لخلفيته الدينية، رغم أن هذا الأخير متهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وإعدامات جماعية، والتغطية على المنظومة الاستبدادية الفاسدة أيضاً.
المرشح الثالث الذي تم إقصاؤه هو نائب رئيس الجمهورية الحالي الإصلاحي إسحاق جهانغيري، علماً أن فقدانه الأهلية - كما زعم مجلس صيانة الدستور - يقتضي إقالته من منصبه أو حتى إحالته للقضاء ومحاكمته، وباستطاعة الحرس ومتطرفيه فعل ذلك الأمر وبسهولة، ولكنهم امتنعوا كونه سيحدث ضجة كبيرة هم في غنى عنها.
مجلس صيانة الدستور غير المنتخب، والذي ينفذ أوامر الدولة العميقة التي يقودها الحرس بتغطية تامة من الولي الفقيه علي خامنئي، كان قد رفض أهلية آلاف المرشحين الإصلاحيين في الانتخابات البرلمانية الأخيرة (2020) التي أفرزت مجلساً محافظاً متشدداً يقوده أيضاً أحد ضباط الحرس السابقين محمد باقر قاليباف. وكان قد رفض قبل ذلك في انتخابات العام 2013، ولتسهيل وصول حسن روحاني نفسه إلى السلطة ضمن التحضير للاتفاق النووي مع أمريكا بعد حوارات سلطنة عُمان السرية التي أدارها خامنئي مباشرة صيف العام نفسه، ترشيح أحد قادة الثورة ومؤسسي النظام الحالي الشيخ هاشمي رفسنجاني، كما اعترف وزير الاستخبارات السابق منذ أيام، بناء على تقرير مسيّس يدعي عدم أهليته من الناحية الصحية وعجزه عن أداء مهام المنصب، علماً أن المجلس كان بإمكانه طلب شهادة أهلية من المرشحين عبر جهة معترف بها - كما هي العادة في دول العالم - مع الإشارة إلى أن رفسنجاني كان يتمتع بصحة جيدة ويمارس الرياضة بشكل يومي كما نشرت عائلته "فيديو خاصا" آنذاك، كما كان يمارس السباحة (هوايته المفضلة) بشكل منتظم. ولم يكتف المتنفذون بذلك بل تم التخلص منه نهائياً بإعدامه عبر إغراقه في المسبح حسب رواية عائلته، ثم جرى تهديد الرئيس الحالي حسن روحاني علناً بمصير مشابه في لافتة رفعت في معقل المتشددين بمدينة قم.
يبدو أن الكمبيوتر سيئ الصيت تدخّل أيضاً هذه المرة والنسبة الرسمية على علاّتها تعني أن نصف من يملكوا حق الاقتراع قاطعوا الانتخابات، رغم مناشدة علي خامنئي للتصويت في ما تشبه الفتوى
قبل الحديث عن رئيسي نفسه لا بد من الإشارة إلى نسبة التصويت المعلنة رسمياً التي لامست حدود الخمسين في المائة، وهي نفس النسبة التي كانت قد أعلنتها وكالة الحرس للأنباء (فارس) قبل ذلك بأيام، وتعتبر الأدنى منذ أربعين عاماً تقريباً رغم إعلان المعارضة أنها أقل من ذلك بكثير.
ويبدو أن الكمبيوتر سيئ الصيت تدخّل أيضاً هذه المرة والنسبة الرسمية على علاّتها تعني أن نصف من يملكوا حق الاقتراع قاطعوا الانتخابات، رغم مناشدة علي خامنئي للتصويت في ما تشبه الفتوى، والأهم ربما أن مليونا ممن شاركوا وضعوا أوراقا بيضاء باطلة، في رفض صريح أيضاً لفتوى خامنئي بحرمة التصويت بورقة بيضاء وإنما سوداء فقط، وهي المعطيات التي انتبهت إليها صحيفة جمهوري إسلامي (الخميس 24 حزيران/ يونيو)، واصفة انخفاض نسبة التصويت بالشنيع، والرقم الكبير للأصوات الباطلة بالمفاجأة.
إبراهيم رئيسي كان مغموراً قبل انتخابات 2017 التي خسرها أمام الرئيس الحالي حسن روحاني، وكان الأمر نفسه سيتكرر أمام أي مرشح قوي، ولذلك تم إقصاؤهم جميعاً، وهو محافظ متشدد سينفذ السياسات المتبعة حالياً داخلياً وخارجياً من قبل المتطرفين الذين وصفهم هاشمي رفسنجاني بأنهم لا يقلون خطراً عن التكفيريين "الدواعش"، حيث سيواصل حماية منظومة الفساد الأمنية حسب تعبير أحمدي نجاد. كما دعم السياسات الاستعمارية التوسعية للإمبراطورية الفارسية التي عاصمتها بغداد، حسب تعبير علي يونسي، مستشار الرئيس حسن روحاني.
إبراهيم رئيسي كان مغموراً قبل انتخابات 2017 التي خسرها أمام الرئيس الحالي حسن روحاني، وكان الأمر نفسه سيتكرر أمام أي مرشح قوي، ولذلك تم إقصاؤهم جميعاً، وهو محافظ متشدد سينفذ السياسات المتبعة حالياً داخلياً وخارجياً من قبل المتطرفين الذين وصفهم هاشمي رفسنجاني بأنهم لا يقلون خطراً عن التكفيريين "الدواعش"
عموماً ولفهم ما سيفعله، أو للدقة ما لن يفعله رئيسي، لا بد من تذكر التسريبات الصوتية لوزير الخارجية جواد ظريف الذي اعترف بأن وزارته كما البلد كله مدارة بذهنية أمنية، وهو الواقع الذي تم اختيار رئيسي من أجل حمايته وإدامته. وهنا أيضاً لا بأس من تذكر واقعة شحن قاسم سليماني لبشار الأسد إلى طهران وسوقه لمقابلة الرئيس حسن روحاني؛ دون علم هذا الأخير الذي تفاجأ بحضوره، ودون علم ومشاركة وزير الخارجية جواد ظريف الذي استقال رافضاً إفراغ منصبه من محتواه، قبل أن يتراجع ويرضخ لتنفيذ تعليمات الميدان "الأمنية" على حساب الدبلوماسية، ودفع الأثمان الباهظة عن ذلك حسب تعبيره الحرفي.
في كل الأحوال، لخصت منظمة العفو الدولية في بيان لها (19 حزيران/ يونيو) عن الانتخابات الإيرانية المشهد بدقة، حيث قالت حرفياً في خلاصتها النهائية: "واقع أن إبراهيم رئيسي وصل إلى الرئاسة بدلا من إخضاعه للتحقيق في جرائم ضد الإنسانية وجرائم قتل وإخفاء قسري وتعذيب، هو تذكير قاتم بأن الإفلات من العقاب يسود في إيران".