مقالات مختارة

سرقة مياه العرب

1300x600

اجتمع وزراء الخارجية العرب يوم 15 يونيو الماضي في العاصمة القطرية الدوحة بناء على طلب من مصر والسودان. وصدر عشية الاجتماع بيان مصرى سودانى مشترك جاء فيه أن البلدين اتفقا على تنسيق الجهود لدفع إثيوبيا على التفاوض بجدية على اتفاق بشأن ملء وتشغيل السد.


صدر عن الاجتماع بيان يؤكد أن الأمن المائي لمصر والسودان هو جزء لا يتجزأ من الأمن القومي العربي مع مطالبة إثيوبيا بالامتناع عن اتخاذ أي إجراءات أحادية تضر بمصر والسودان.


ودعا البيان مجلس الأمن لتحمل مسئولياته من خلال عقد جلسة عاجلة للتشاور حول هذا الموضوع واتخاذ الإجراءات اللازمة لإطلاق عملية تفاوضية فعالة.


استقبلت الجماهير العربية، وبشكل خاص في مصر، بيان وزراء الخارجية العرب بنفس الروح التي للأسف سادت لديهم عن مصداقية وفاعلية الجامعة، وأنها صارت غير قادرة على الحسم، وأن دورها بات قاصرا على الشجب وإدانة دون قدرة على الحسم أو الردع، وإن اجتماعات العرب باتت إجراء تجميليا لسد خانة شكلية، وأنه لا توجد رؤية عربية أو جبهة عربية موحدة، وأن سد النهضة الذي اجتمع الوزراء العرب لمواجهة خطورته ساهمت رءوس أموال عربية في تمويل بنائه، وتساهم الاستثمارات العربية في انعاش اقتصاد إثيوبيا، وأن بلادا عربية عرضت وساطتها لحلحلة الأزمة بشكل يجعلها محايدة في الأزمة لا داعمة للموقف المصري السودانى، وحتى السودان المتضررة مع مصر من السد وقفت مع إثيوبيا فترة حكم البشير ولم يترك وزير ريِّها الحالى ياسر عباس وقتا لمداد بيان وزراء الخارجية ليجف قبل أن يعلن في مؤتمر صحفي عقده في الخرطوم عن استعداد السودان للتوصل إلى اتفاق مرحلي مع إثيوبيا بشرط استمرار التفاوض.


من المفارقات أن العرب وأغلبهم من المسلمين يقرأون في القرآن قوله تعالى «وجعلنا من الماء كل شيء حي» مما يجعل للماء قدسية قبل القيمة الخاصة، وأن بلادهم تعد في أكثر المناطق فقرا في الماء. ويرتبط الماء ارتباطا وثيقا بالغذاء ومن ثم كانت المنطقة العربية من أكثر مناطق العالم استيرادا للغذاء. وتستورد أكثر من 75% من غذائها، وتبلغ قيمة وارداتها من القمح فقط 10 مليارات دولار سنويا.

 

ولا تخفي الولايات المتحدة أنها استخدمت القمح كورقة ضغط على مصر في فترة جمال عبدالناصر، كما تعرضت العراق لواحدة من أكثر الاتفاقات المهينة وهى اتفاقية النفط مقابل الغذاء؛ والتي سمحت من خلالها الولايات المتحدة للعراق بيع بعض نفطها تحت رقابة صارمة لمشترين مختارين ليستطيع العراق، وهو الدولة التي لديها أراض لو تلقت الرعاية اللازمة لأطعمت الشعب العراقي والشعوب المجاورة. ولعله قد آن الأوان لنطرح سؤالا مشروعا: هل هي محض مصادفة أن تكون أكثر الدول العربية المتعرضة للقلاقل وعدم الاستقرار هي الدول التي تمتلك مصادر ثرية للمياه والتي يمكنها أن تكون منتجة للغذاء الوفير؟ السودان والعراق وسوريا واليمن السعيد، الذي كنا نتغنى بخصوبته، وحتى الصومال التي نسينا أنها دولة عربية وكانت ثرية بقطعانها وثرواتها الحيوانية.


كان اجتماع وزراء الخارجية العرب في الدوحة وكأنه عودة بالزمن حوالي 60 سنة إلى عام 1964 عندما دعت مصر إلى قمة عربية في القاهرة لمواجهة التهديد الإسرائيلي لنهر الأردن، بعد أن وقف رئيس أركان الجيش الإسرائيلي يقول في صلف أن إسرائيل ستحول مجرى النهر سواء وافق العرب أو رفضوا. أدرك جمال عبدالناصر وقتها أن الصلف الإسرائيلي سببه إدراكها ضعف الجبهة العربية بسبب الخلافات المصرية السودانية وحرب اليمن والخلاف مع الأردن ومع تونس بورقيبه، ولابد من رأب الصدع العربي وتكوين جبهة قوية موحدة قادرة على مواجهة التحدي. وانعقد مؤتمر وزراء الخارجية العرب تحت ظروف مشابهة: تهديد لمورد مياه أكبر كثيرا من نهر الأردن في وقت انقسم العرب في خلافات واقتتال في لبنان وسوريا والعراق واليمن وليبيا والصومال ولم تعد هناك جبهة عربية لها مصداقيتها.


حققت قمة 64 نجاحات مؤقتة لم يقدر للعرب البناء عليها منها تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية وإنشاء قيادة عربية مشتركة برئاسة الفريق علي عامر.


ومن الأمور المأساوية أن العرب لم يعدوا أنفسهم لمواجهة طمع جيرانهم في مياههم رغم أنهم أعلنوا منذ البداية عن أطماعهم ولم يخفوها، فبعد صدور وعد بلفور عام 1917 الذي زكى الأطماع الصهيونية في فلسطين أرسل حاييم وايزمان رئيس المنظمة الصهيونية العالمية رسالة إلى رئيس وزراء بريطانيا في 29 ديسمبر 1919 يطلب فيها ضم وادي الليطاني وجبل الشيخ، وهى المناطق الغنية بمصادر المياه، إلى فلسطين. ولحقت الدوائر الصهيونية بعد 22 سنة على هذه الرسالة برسالة ثانية أرسلها بن جوريون سنة 1941 إلى وزارة الخارجية البريطانية يطلب فيها ضم وادي الليطاني وجبل الشيخ إلى حدود فلسطين. ولا يسعنا بعد مرور الزمن إلا أن نتساءل بأي حق يطالب أعضاء في المنظمة الصهيونية العالمية تعديل حدود البلاد العربية من قبل قيام دولة إسرائيل!

إلا أن إسرائيل لم تكتف بالالتماسات والرسائل لكنها عمدت إلى تغيير الأمر الواقع عمليا فأقامت محطات ضخ لسحب مياه نهرى الليطاني وحاصباني التي تصب في نهر الأردن افتئاتا على الحق العربي، وعندما أبدى العرب اعتراضا قال رئيس الأركان الإسرائيلي إن بلده سينفذ مشروعه بالقوة. ومن المفارقات أن الولايات المتحدة وقفت ساكنة إزاء الانتهاكات الإسرائيلية رغم تعارضها مع مشروع جونستون نسبة إلى السفير جوزيف جونستون الذي كلفه الرئيس ايزنهاور في عام 1953 بدراسة توزيع المياه في المنطقة لتكفي التنمية لصالح اللاجئات واللاجئين الفلسطينيين. واستكملت إسرائيل مخططاتها المائية بالقوة باحتلال مرتفعات الجولان عام 1967 وسيطرتها على بحيرة طبرية واستمرت إسرائيل في عملياتها ضد لبنان مثل عملية الليطانى عام 1978 ثم اجتياحها لبنان بالكامل وسيطرتها على بيروت عام 1982 واحتلالها جنوب لبنان لفترة طويلة نفذت فيها عمليات هندسية لخدمة أطماعها المائية وبشكل أكبر حققت عمليا إرهاب لبنان عن اتخاذ أي إجراء يعوق أطماع إسرائيل في المياه. ولم تكن مياه لبنان وسوريا والأردن وحدها مطمعا للجيران، فقد استغلت تركيا العداوة الشديدة بين النظامين في سوريا والعراق لسرقة مياه نهر الفرات ومن المفارقات أن النظامين ينتميان لحزب البعث وشعاره أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة. فأنشأت تركيا سد اليسو يكون خلفه بحيرة مساحتها 300 كم مربع وتخزن 44 مليار متر مكعب من المياه وهى ماضية في تنفيذ مشروع Great Anatolia Project GAP الذي يشمل إقامة 22 سدا أكبرها سد أتاتورك الذي يعد رابع أكبر سد في العالم الذي يخزن 70 مليار متر مكعب من الماء وبذلك تكون تركيا قد سيطرت على 90% من مياه الفرات.


ولا يمكن أن نطوى هذه الصفحة دون أن نذكر مشروع قناة جونجولى الذي كان سيوفر 9 مليارات متر مكعب من المياه لمصر والسودان وهاجمته قوات الحركة الشعبية لجنوب السودان عام 1984 أثناء الحرب الأهلية في السودان ودمرت معداته وأرهبت العاملين فيه.


كان نهب المياه العربية يتم في البلاد المنقسمة على نفسها وعلى غيرها مثل سوريا والعراق ولبنان، والآن تجرأت إثيوبيا على عمود الخيمة مصر القوية الموحدة، فهل يهرع العرب لصد الأذى عنها تطبيقا لما جاء في بيان وزراء الخارجية العرب بأن الأمن المائي لمصر والسودان جزء من الأمن القومي أم يظل هذا حبرا على ورق؟!


منذ أكثر من ستين عاما غنى عبدالحليم حافظ «الحكاية مش حكاية السد» الحكاية أصبحت حكاية السدود التي تحجز عنا المياه مصدر الحياة وتهدد وجودنا ونحن مشغولون بالخلافات فيما بيننا فضعفت الجبهة وضعفت الهيبة وطمع فينا الطامعون.

 

(الشروق المصرية)