تستضيف العاصمة الألمانية برلين في 23 من حزيران/ يونيو الجاري مؤتمراً دولياً ثانياً بخصوص الأزمة الليبية، يستهدف - وفق بيان الخارجية الألمانية - "تقييم الجهود المحرزة في العملية السياسية منذ مؤتمر برلين الأول" في كانون الثاني/ يناير الفائت، ومناقشة "الخطوات التالية لتحقيق استقرار مستدام في
ليبيا".
ووفق مصادر في الخارجية الألمانية، فإن أهم هذه الخطوات التالية التي سيركز عليها المؤتمر الاستعدادات للانتخابات الوطنية المقرر عقدها في كانون الأول/ ديسمبر المقبل، وانسحاب الجنود الأجانب والمرتزقة من الأراضي الليبية.
وقد أكد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش مشاركته في المؤتمر عن بُعد، بينما سيشارك مبعوثه الخاص لليبيا يان كوبيش شخصياً. وقد وجهت ألمانيا دعوات للمشاركة في المؤتمر للدول والمنظمات التي شاركت في النسخة الأولى، إضافة لحكومة الوحدة الوطنية الانتقالية وعدد من القوى والمنظمات الإقليمية والدولية.
حدث كهذا، إضافة لاقتراب الاستحقاق الانتخابي المفترض تنظيمه نهاية العام، كان كافياً لتسخين الملف الليبي بشكل طبيعي، لكن ما حصل هو تسخينه في سياقات غير طبيعية، داخلياً وخارجياً، ميدانياً وسياسياً
حدث كهذا، إضافة لاقتراب الاستحقاق الانتخابي المفترض تنظيمه نهاية العام، كان كافياً لتسخين الملف الليبي بشكل طبيعي، لكن ما حصل هو تسخينه في سياقات غير طبيعية، داخلياً وخارجياً، ميدانياً وسياسياً.
أول هذه السياقات هو
المبادرة الفرنسية بخصوص إخراج القوات الأجنبية والمقاتلين
المرتزقة من ليبيا، حيث اقترحتها
فرنسا طبقاً لمجلة بوليتيكو الأمريكية على عدة دول في مقدمتها الولايات المتحدة وتركيا، محددة جدولاً زمنياً سقفه ستة شهور، وعلى ثلاث خطوات أولها سحب القوات التي دعمت بها
تركيا حكومة الوفاق، ثم مجموعات فاغنر الروسية، ثم القوات التركية النظامية، لِيَلِيَ كل ذلك توحيد المؤسسة العسكرية الليبية.
وتعكس هذه المبادرة في حال صحت (حيث لم تؤكدها أو تنفها الجهات الرسمية) رغبة فرنسية في العودة لدور أكثر فعالية في الملف الليبي من جهة، ومناكفة تركيا مرة أخرى من جهة ثانية، رغم أن الفترة الأخيرة
شهدت تواصلاً ولقاءات ودية بين الجانبين وتراجعاً في حدة الخطاب المتبادل بينهما.
والسياق الثاني متعلق بالتطورات الداخلية في ليبيا، حيثُ تواترت في الآونة الأخيرة بعض المؤشرات التي توحي باحتمالات التصعيد من معسكر خليفة
حفتر. ولعل أهمها الاستعراض العسكري الذي نظمه الأخيرُ نهايةَ الشهر الفائت في بنغازي في ذكرى معركة طرابلس، وإعلانه مؤخراً عن إغلاق الحدود مع الجزائر لتنفيذ
عملية عسكرية في الجنوب الليبي لطرد مرتزقة أفارقة كان هو من استقدمهم واستعان بهم في حروبه وحصاره للعاصمة، وكذلك نفيه
فتح الطريق الساحلي الذي كان أعلن عنه رئيس حكومة الوحدة الوطنية الدبيبة قبل يومين.
مؤشرات التصعيد هذه تغذيها خلافات ضمنية أو فتور نسبي في العلاقات بين تركيا وروسيا مؤخراً، على هامش الموقف التركي من أزمة أوكرانيا، وكذلك الرسائل التركية الإيجابية تجاه الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي (الناتو) في القمة الأخيرة في بروكسل
مؤشرات التصعيد هذه تغذيها خلافات ضمنية أو فتور نسبي في العلاقات بين تركيا وروسيا مؤخراً، على هامش الموقف التركي من أزمة أوكرانيا، وكذلك الرسائل التركية الإيجابية تجاه الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي (الناتو) في القمة الأخيرة في بروكسل. وقد حصلت بعض التطورات التي يمكن فهمها كرسائل عتب و/أو ضغط روسية على أنقرة، مثل وقف الرحلات السياحية الروسية إلى الأخيرة بذريعة جائحة كورونا، وحالة التصعيد المتزايدة في الآونة الأخيرة في الشمال السوري من قبل النظام وروسيا وقوات سوريا الديمقراطية التي ما زالت تتمركز في تل رفعت وغيرها بغطاء روسي.
إذن، في المحصلة، هناك إشارات على احتمال عودة حفتر للخيار العسكري بعد أن كانت تركيا ساهمت بشكل كبير في وأده والتمهيد للخيار السياسي؛ الذي نتج عنه تهدئة ما زالت صامدة حتى اللحظة وحوار وطني، ثم انتخابات لمؤسسات المرحلة الانتقالية على أمل إجراء انتخابات عامة في كانون الأول/ ديسمبر المقبل كخطوة أخيرة لإنهاء الاقتتال الداخلي.
وبالتوازي مع ذلك، ثمة استهداف سياسي للدولة الوحيدة التي دعمت حكومة الوفاق الوطني في حينه ومنعت سقوط طرابلس بيد حفتر. وهي تطورات في المجمل تثير مخاوف واضحة من توجهات حفتر وداعميه في المرحلة المقبلة، وهل هي مجرد أدوات ضغط قبيل مؤتمر برلين (الذي لم يُدعَ حفتر كشخص له) أم هي رغبة حقيقية في إعادة خلط الأوراق بالعودة للخيار العسكري بالكامل؟
وعليه، ترى أنقرة أن دورها ووجودها في ليبيا مستهدفان في التحركات الدبلوماسية الأخيرة كما في التطورات الميدانية واحتمالاتها المستقبلية، وهو أمر لا يمكنها تجاهله. فقد أصبحت ليبيا دولة بالغة الأهمية بالنسبة لها؛ إن كان على صعيد التنافس الجيوسياسي مع باقي الأطراف في المنطقة أو على صعيد التنافس على الحدود البحرية والثروات في شرق المتوسط.
ترى أنقرة أن دورها ووجودها في ليبيا مستهدفان في التحركات الدبلوماسية الأخيرة كما في التطورات الميدانية واحتمالاتها المستقبلية، وهو أمر لا يمكنها تجاهله. فقد أصبحت ليبيا دولة بالغة الأهمية بالنسبة لها
ويزيد من الهواجس التركية أن بعض الأصوات في ليبيا - من ضمنها وزيرة الخارجية - كانت قد طالبت بخروج القوات التركية، قبل أن تصدر توضيحات تنفي الأمر بهذه الصيغة، ما يدفع أنقرة للتحرك تحسباً لأي طارئ.
في المقام الأول، سيكون ثمة تحفظ تركي كبير على التحرك الفرنسي إن صح - والذي عليه بعض الشواهد - خصوصاً وأنه يركز عليها ويبدأ بها في الخطة والجدول الزمني، والأهم أنه يساوي بينها وبين قوات الفاغنر الخاصة الروسية. وتعيد أنقرة التأكيد في كل مرة على أن وجودها في ليبيا قانوني ورسمي ومعلن، حيث أنها أتت إلى ليبيا بناء على دعوة من حكومة الوفاق التي كانت تحظى بالاعتراف الدولي، بعد توقيع
مذكرة تفاهم للتعاون العسكري والأمني معها.
وهذا يعني أن مساواتها بالفاغنر أو غيرها إجحاف بحقها لن تقبله، وأن المطالبة بخروج قواتها ليس من حق أي طرف خارجي، وإنما هو ضمن صلاحيات السلطات الليبية فقط، لا سيما بعد تشكيل حكومة لعموم البلاد بعد الانتخابات العامة. إذ أن عدداً من الخبراء كانوا قد أشاروا لعدم امتلاك حكومة الوحدة الوطنية الانتقالية الحالية صلاحيات تعديل أو إلغاء الاتفاقات والتفاهمات السابقة عليها.
لكن تركيا لا تكتفي بذلك، وإنما تتحوط لأي تطورات عسكرية غير مرغوبة. وكان ذلك في ما يبدو أحد أهم أسباب الزيارة التركية رفيعة المستوى قبيل قمة الناتو، والتي كانت مفاجئة في حينها على صعيد التوقيت، وكذلك في ما خص تركيبة الوفد الذي ضم وزراء الخارجية والدفاع والداخلية ورئيس أركان الجيش إضافة لرئيس جهاز الاستخبارات والناطق باسم الرئاسة ورئيس دائرة الاتصال فيها.
الزيارة التي أتت "بناء على تعليمات الرئيس أردوغان وقبل قمة الناتو"، وقابل خلالها المسؤولون الأتراك نظراءهم الليبيين، ولم تصدر عنها تصريحات رسمية تفصيلية، هدفت في ما يبدو لتأكيد مشروعية وقانونية الوجود التركي في ليبيا من جهة، وكررت الدعم التركي لحكومة الوحدة الوطنية
الزيارة التي أتت "بناء على تعليمات الرئيس أردوغان وقبل قمة الناتو"، وقابل خلالها المسؤولون الأتراك نظراءهم الليبيين، ولم تصدر عنها تصريحات رسمية تفصيلية، هدفت في ما يبدو لتأكيد مشروعية وقانونية الوجود التركي في ليبيا من جهة، وكررت الدعم التركي لحكومة الوحدة الوطنية من جهة أخرى، وكذلك رتبت معها الخطوات المطلوبة مستقبلاً لمواجهة السيناريوهات المحتملة وفي مقدمتها التصعيد العسكري من زاوية ثالثة.
كما أن أنقرة تعول على تنسيق أفضل مع الولايات المتحدة في الموضوع الليبي، حيث إنه من الملفات القليلة التي يتوافق فيها البلدان، وتدرك واشنطن أن الدور التركي فيها موازٍ وموازن للدور الروسي الراغب في موطئ قدم راسخ في جنوب المتوسط.
وفي الخلاصة، تبدو تركيا مستعدة لصفحة جديدة قد تفتح في الملف الليبي في الأسابيع والشهور المقبلة، وهي صفحة تريد لها بعض الأطراف في ما يبدو أن تكون في الميدان لا على طاولة الحوار السياسي.
twitter.com/saidelhaj