يقدّر «الخبراء» في لبنان أرقام ودائع الناس في المصارف بأكثر من مئة مليار دولار. والآن يتحدث المصرف المركزي أنه لم يتبق من احتياط «إلزامي» بالعملة الصعبة سوى الحد المنصوص عليه في القانون، أي 15 مليار دولار. أي لو أراد المصرف المركزي أن يعيد المال للمودعين لخسروا أكثر من 90 في المئة من ودائعهم. ومن ثم فإن جنى عمر المودعين من موظفين ومغتربين يكون قد ذهب هباء؛ نتيجة سياسات تكافلية وتضامنية بين مربع المال- السياسة- الأمن- القضاء.
يقول البنك الدولي في تقريره قبل أيام قليلة فقط؛ إن الأزمة الاقتصادية في لبنان هي واحدة من أسوأ ثلاث أزمات مرت على العالم منذ أكثر من منتصف القرن التاسع عشر. ولعل البنك الدولي لا يقول الحقيقة كاملة؛ لجهة أن ما يشهده لبنان لم يمر على شعب أو بلد في العالم.
والمفارقة المخزية، أن الذين تسببوا بالانهيار في نهاية العام 2019 بعد «ثورة 17 أكتوبر»، هم أنفسهم الذين لا يزالون في السلطة، والذين يتصدرون الآن المشهد السياسي؛ باعتبارهم المنقذين للبلد من الهوة العميقة التي وقع فيها.
ومع ذلك، يأتي هؤلاء ليشكلوا حكومة يحتاج إليها البلد منذ سنة ونصف السنة ليتلاعبوا بمقدرات الناس ومستقبل البلد. لكن مرت ثمانية أشهر على تكليف سعد الحريري تشكيل الحكومة الجديدة، وكان هو رئيسا للحكومة إبان ثورة 17 أكتوبر، ولم تتشكل بعد الحكومة الميمونة. التشكيل متأخر كيفما نظرنا إليه، وما كان ممكنا قبل سنة ونصف السنة أو قبل سنة ما عاد ممكنا اليوم. والخلاف بين الحريري ورئيس الجمهورية ميشال عون على وزيرين ومن يسميهما، ما عاد ينطلي على أحد. ومنذ متى تقف حال بلد وقع في الهاوية ومنذ وقت طويل على تسمية وزيرين من هنا أو من هناك؟
لذلك، فإن المشكلة في لبنان لا تقف عند ظواهر يراها المواطن بأم العين. هذا المواطن الشريف الآدمي والنظيف يرسلونه اليوم إلى طوابير بمئات الأمتار لينتظر دوره ساعات، لتعبئة بضع ليترات بنزين في سيارته. وكل الأدوية الأصلية وحتى بدائلها مقطوعة، فيما يمضي المواطن يومه في التنقل من صيدلية لأخرى يبحث عن دواء غير موجود أصلا. أما أكل اللحوم والدواجن، فأصبح من الكماليات ليقتصر على أصحاب المربع الشهير السيئ الذكر. أما الغلاء، فأصبح أكثر من ألف في المئة وانهارت الرواتب ليصبح الحد الأدنى للأجور كمثال على ذلك أربعين دولارا، بعدما كان قبل سنة ونصف السنة فقط 400 دولار.
المؤشرات الاقتصادية، ولسنا بحاجة إلى «الجهابذة» الاقتصاديين المأجورين لأصحاب المربع المذكور، تعكس كيف أن بلدا صغيرا مثل لبنان قد نهب نهبا وأمام الملأ. وعلى قاعدة حاميها حراميها يعملون اليوم على محاولة فاشلة لتشكيل حكومة كانوا هم أركانها. فكيف تطلب ممن كان هادما أن يكون بانيا؟
نعم هذا يمكن أن يكون في لبنان، لكن النتيجة ستكون أن من جاء باسم الإنقاذ، إنما جاء ليكمل سرقة القلة الباقية من أموال الناس التي لم تعد تساوي شيئا. وحين يسأل المواطن عن مربعات الفساد، يأتي الجواب أن زوجاتهم، وما أكثرهن، بتن مع المال والذهب الحرام في سويسرا.
يكاد يمضي على الأزمة سنتان وعلى انفجار المرفأ سنة كاملة وليس من يعيد الأموال أو ينقذ البلد أو يحاسب. فالمربعات المذكورة تتعلق بصمام أمان يقيها شر الثورات، ألا وهو النظام الطائفي، القطبة السحرية في بلد الفوضى والنهب والفساد. وعندما توجه اتهاما إلى مسؤول ما، تقوم القيامة لأنه من طائفة معينة. وكل المسؤولين الكبار «خط أحمر»: من حاكم المصرف المركزي إلى رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية ورئيس البرلمان ورئيس مجلس القضاء الأعلى وقائد الجيش وقائد قوى الأمن الداخلي، وهلم جرا. فليعلم اللبناني أن أي إصلاح، لا يبدأ من إصلاح بل إلغاء النظام الطائفي وكسر المربعات الزبائنية، مصيره الفشل واستمرار نظام النهب. وحينها على اللبناني، وبكل أسف، أن يختار بين العيش في لبنان في ظل نظام الفساد والطائفية هذا، أو أن يهاجر إلى بلاد الله الواسعة غير آسف على بلد أمضى فيه عمره، ليستفيق ذات صباح على جنى عمره وقد سرقته تلك «المربعات».
(صحيفة الخليج)