عندما كان يكتمل جمع الأصدقاء من المجاهدين التبسيين في فلسطين سنة 1948م في ساحة الاستقلال بمدينة تبسة وتحلو جلستهم وتطيب بالقرب من محل الحاج (مسعود قصري) يرحمه الله شقيق المجاهد الحاج (الصادق قصري- المدعو عبد الحفيظ)([1]) قائد فوج المجاهدين التبسيين إلى فلسطين في قلب المدينة العتيقة المشبعة بعبق التاريخ ونسيم الحضارات وزكانة وسمعة وسيرة الرجال وركانة الشجعان والأبطال([2])، وتتحرك أمامهم خيالات وذكريات الجهاد في فلسطين سنة 1948م وفي الجزائر سنوات الحركة الوطنية 1937 والثورة التحريرية 1954-1962م، ولاسيما إن مررتُ بجلستهم وأنا أحمل لفافة الجرائد والمجلات الجزائرية والعربية، وأقرأتهم التحية والإكبار والتجلة والسلام لمعرفتي بقدر ومكانة الجيل الجهادي العتيد الذي تربّينا على يديه ورضعنا حليبه ولبنه، والذي كان والدي الحاج محمود أحدهم، فيدعونني الحاج (عبد الحفيظ قصري) رحمه الله للجلوس معهم بعض الوقت، على اعتبار أن العادات تقضي أن لا يجلس الولد مع جلساء أبيه احتراما وتقديرا، وذلك بقصد تسجيل وتدوين بعض ما يرِد في حديثهم الجهادي والنضالي الشيق، أو لعلني أستفزهم بسؤال عن واقع أمتنا الإسلامية وفلسطين، فأستأذن بطرح بعض الأسئلة التي أتعرف من خلالها على تجربتهم النضالية والجهادية في إطار الحركة الوطنية الجزائرية (نجم شمال إفريقيا، حزب الشعب، حركة انتصار الحريات الديمقراطية، المنظمة السرية..) وتنوير جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بقيادة الشيخ العلامة المجاهد الشيخ العربي التبسي وتلامذته العلماء العاملين وفي إطار رحلتهم الجهادية إلى فلسطين سيرا على الأقدام شهر مارس 1948م باتجاه معسكر الملك فاروق بمدينة مرسى مطروح الذي كان مأوى لاستقبال المجاهدين من بلاد المغرب العربي (المغرب، الجزائر، تونس، ليبيا)، فيتحدثون عن بطولات خارقة تعجز عنها الجيوش النظامية للدول العربية، ومن بين الأسئلة التي طرحتُها يومئذ عليهم مسألة التسليح وحقيقة صفقات السلاح الفاسد التي باعتها الدول الأوربية للأنظمة العربية، والتي عرفنا أن بعضها –كما كانت تنقله التقارير والبيانات الحربية- كان ذخيرة فاسدة أو ذخيرة غير مطابقة للمواصفات أو سلاحا فاسدا سرعان ما يتعطل بفعل الحرارة أو ينفجر بفعل عدم مطابقته للسلاح المستعمَل، أما هذه الحادثة التي ذكروها لي بحضورهم جميعا فهي غريبة ولم تنقلها التقارير ولا البيانات الحربية أو حتى الأرشيف التاريخي، فقد روى والدي وأصحابُه المجاهدون التبسيون الحادثة التاريخية الغريبة التالية:
((.. ذكروا أنهم خاضوا مرة معركة حربية تحت قيادة المرحوم فوزي القاوقجي آمر فوج المجاهدين المغاربة في جيش الإنقاذ العربي شارك فيها سلاح الدبابات من كلا الطرفين اليهودي والعربي السوري، وروا لي أن الحماس والشجاعة والبطولة وحب الشهادة لم تكن لتنقصهم البتة، كما أنهم لم تكن لتنقصهم حرارة لقاء اليهود من عصابات (الهاغانا، الأرغون، الشتيرن) وشهية الانقضاض عليهم، حتى فوجئوا بتدمير كافة الدبابات العربية السورية في مواقعها دون أن تتحرك لمواجهة الدبابات اليهودية المعادية، مع العلم أن صفقة الدبابات التي استُورِدت من إيطاليا هي ذاتها الصفقة التي بيعت للعصابات اليهودية نفسها، وعلى أساس أن الطرف الإيطالي باع طراز الدبابات من الصنف نفسه الذي باعه لليهود، وأخبرهم بأن الأمر متوقفٌ على شجاعتهم في مقابلة اليهود فقط، وهناك احتارت قيادة جيش الإنقاذ العربي وعلمت أن في الأمر خدعة ما، وشكَّتْ في طول أو قصر ماسورة مدفع الدبابات، وتوصلت القيادة يومها وبشكل فوري وسريع إلى ضرورة اختيار متطوعين فدائيين مستعدين للشهادة والموت في سبيل الله، وتلخصت مهمتهم في مباغتة إحدى دشم دبابات العدو ليلا والانقضاض على طاقمها وقتله وقياس ماسورة مدفع الدبابات اليهودية، وتطوع والدي وثلاثة من رفاقه للقيام بهذه المهمة الجهادية، ونجحوا في قتل الطاقم والحراس بالخناجر الذين كانوا مربوطين بالسلاسل الحديدية كي لا يفروا، وتمكنوا من قطع آذانهم وإحضارها معهم، لأنها كانت علامة على نجاح مهمّتهم بعدد اليهود المقتولين، كما نجحوا أيضا في الصعود على ظهر الدبابة وقياس طول ماسورة مدفعها، وحمله إلى مقر القيادة، التي تبيّنت أن طول ماسورة صفقة الدبابات التي باعتها إيطاليا لليهود تزيد بـ (25) سنتيمترا على صفقة الدبابات التي باعتها لجيش الإنقاذ العربي.. وعليه دُمِّرت الدبابات العربية السورية أمام اليهود المعتدين)).
ومن هنا جاء النصر لليهود الغاصبين، كما جاءهم النصر مع وعد المجرم الحقود الصهيوني (جيمس آرثر بلفور) وزير المستعمرات البريطاني يوم 02/11/1917م وبريطانيا المجرمة بقيادة الجنرال المجرم (اللنبي) الذي دخل القدس سنة 1917م، بعد أن غدر العرب والشريف حسين وطعنوا الدولة العثمانية من الظهر بمزاعم الثورة العربية الكبرى 1916م، وكما جاءهم دعم دول العدوان الثلاثي على مصر (إسرائيل، فرنسا، بريطانيا) سنة 1956م، ودعم أمريكا اليهودية والصهيونية سارقة أموال الشعوب وذهبها وثرواتها وقاتلة المسلمين في أفغانستان ومدمرة العراق والشام.. من عهد الرؤساء الصهاينة والمعتزين بمساعدة اليهود الغاصبين (تيودور روزفلت وهاري ترومان وإيزنهاور وجون كيندي وليندون جنسونوريتسشارد نيكسون وجيرالد فورد ورونالد ريغان وجيمي كارتر وبيل كلينتون وجورج بوش 1 و2 وباراك أوباما.. إلى الرئيس غريب الأطوار ترامب وبايدن الذي يعتزُّ بأنه صهيونيٌّ حتى النخاع).
ومما رواه والدي -يرحمه الله- مع أصحابه المجاهدين التبسيين قوله: ((.. لقد قاتلنا اليهود في فلسطين بصدق وبشجاعة وببطولة خارقة وبشجاعة نادرة سنة 1948م، وكنا حريصين على الشهادة في سبيل الله وفي سبيل تحرير القدس الشريف وفلسطين من النهر إلى البحر، ولولا الخيانة لما استطاع اليهود هزيمتنا أبدا، لقد كنا صادقين في الإقبال على الموت فوهبنا الله الحياة، وكنا نهاجمهم ليلا في حصونهم وخنادقهم، وفي الصباح نذهب لاستطلاع مواقعهم، فنجدهم صرعى مقيدين بالسلاسل خوفا من الفرار ومن حرارة لقاء المجاهدين المسلمين.. قاتلناهم في سمخ وطبرية وصفد.. وفي سهل الحولة بالقرب من بحيرة طبرية، وأخيرا في الناقورة وبنت جبيل والخيام والمطلة.. التي جُرحت فيها بشظية تحت قيادة قائد لواء المغاربة المجاهد (فوزي القاوقجي) رحمه الله، واستشهد بالقرب مني النقيب الشامي أنور القدسي -يرحمه الله- آمر فوج المغاربة الأشاوس..)).
ولعلني أنقل إليكم نتفا من تلك الذكريات الجهادية التي لم يسبق لي أن ذكرتها في مقالي المنشور في العديد من المجلات والصحف العربية والوطنية ومن بينها صحيفة “الشروق الثقافي” الأسبوعية سنة 1994م، منها مرابطة المجاهدين التبسيين كمتطوعين في فوج المغاربة ضمن جيش الإنقاذ العربي على الحدود السورية الفلسطينية بعد ترسيم خط الهدنة إثر معاهدة رودس سنة 1949م، فقد أُوكِلت إليهم مهمة مراقبة الحدود والقبض على الفارين والمخترقين للحدود، والتي يمكننا استنتاج منها الكثير، وعلى رأسها ضعف وغياب التخطيط، وانعدام الرؤية لدى القيادة العربية، وسوء تقدير الموقف، وغيرها، ففي يوم من الأيام تم ضبط مجموعة من الفلسطينيين الفارِّين من إرهاب اليهود عبر الحدود، وتم القبض عليهم، وأُوكلت مهمة تعذيبهم لفوج المغاربة، ورفض والدي وأصحابُه رفضا قاطعا أن يقوموا بالمهمة على اعتبار أن هؤلاء فلسطينيون وعرب فارُّون من بطش اليهود ولا يوجد دليلٌ على خيانتهم أو اعتبارهم جواسيس لليهود، فعدلتْ القيادة عنهم وأوكلت أمر تعذيبهم إلى عساكر آخرين، وهم يئنُّون من سوء التعذيب، ويحلفون بأغلظ الأيمان أنهم مجرد مواطنين فلسطينيين فارِّين من بطش العدو، فما كان من والدي إلاّ أن قرر وجميع أصدقائه التبسيين أن يطلقوا سراحهم ليلا دون علم القيادة العسكرية، ولما حان الليل توكل والدي بالمهمة ودلهم على الطريق الآمن للفرار، وفي اليوم الموالي اكتشفت القيادة فرارهم، ولملمته دون تحقيقات تُذكر، ومرت الأيام والسنون وكنا نسير مع والدي سنة 1972 في دمشق وإذا برجل مع زوجته وأولاده يقترب من والدي ويسأله إن كان هو ذلك المجاهد والعسكري الجزائري الذي أطلق سراحه مع رفاقه غداة سنة 1949م؟ فقال له والدي: “أنا هو بجلده وعظمه” لأنه لم يكن يكسوه الشحم واللحم كجيله المجاهد العظيم، فإذا بالرجل ينكبُّ على والدي يقبِّله ويلثمه بقوة، ويخبرنا بعظمة والدي وشهامته، وشهادة وأصالة الجزائريين، ويطلب منا أن نعتزَّ بهذا الأب المحترم الذي لولاه لما بقي حيا هو ورفاقه.
ومن بين ذكريات والدي وأصحابِه أيضا أنهم في يوم من أيام الحراسة على الحدود كانوا جلوسا يعدُّون إبريق الشاي استعدادا للحراسة وعلى عادة أهل الشام، حتى تنهَّد شابٌّ دمشقي وتأوَّه تأوُّها حزينا وطويلا وعميقا قائلا: ((أللهم ردّ غربتي))، فقال له والدي بشجاعة -وقد اكتسبت الشجاعة والصراحة والإقدام منه يرحمه الله-: ((وأين تسكن؟ وما هي بلادك؟)) وكان والدي يظن أنه أتى من بلاد بعيدة جدا، فقال الشاب الدمشقي: ((أنا من دمشق))، ودمشق لا تبعد عن الحدود سوى سبعين كيلو مترا أو أقل بقليل، فما كان من والدي إلا أن قام وأشبعه ضربا، قائلا له: ((ماذا نقول نحن الجزائريين والتوانسة والمغاربة والليبيين.. أهكذا تريد أن تحطّم معنوياتنا؟)). ولما رفع أمر ضربه للقيادة أثنت على والدي وصرفت له مكافأة مقدارها ليرتين سوريتين، وهما أجرة عامل بنَّاء في اليوم.
ولعلني أختم بهذه الرائعة الاجتماعية والتربوية والدينية والأخلاقية، إذ عاد أصدقاء والدي التبسيين نهاية 1950م إلى الجزائر وسُجِنوا، ولم يعد والدي لأنه مطلوب للمحاكم الاستعمارية، فمكث في بلاد الشام واستأجر غرفة صغيرة في حي السويقة (حي المغاربة) في قلب دمشق العتيقة، وطلب منه مختار الحي الجزائري أن يتزوَّج لأن العرف يقضي بذلك، فقال له والدي: ((لا أملك الباءة للزواج ونحوها))، فما كان منه إلاّ أن شجعه على الزواج وأن الله سيفتح عليه، وتقدم والدي لطلب يد فتاة فلسطينية رآها خارجة من الثانوية سنة 1953م، وهي فلسطينية المولد وُلدت بطبريا سنة 1935م، وخرجت من فلسطين وعمرها ثلاثة عشر سنة، وبلغت سن الثامنة عشرة يومها، وشجعه أهل الحي ومختار المغاربة الجزائري على أن يتقدم لخطبتها، ولما تقدم جدي لوالدها أبو أحمد محمد حامد حسن المصري، وطلب يد ابنته وأخبره بأنه لا يملك مالا ولا مهرا، فقال له جدي يرحمه الله: ((مهرُها جهادُك في فلسطين))، ولم يدفع مهرها مالا بل جهادا، وتزوجها والدي وأنجبتنا نحن التسعة في دمشق، وعاشت عيشة طيبة في أرض الجهاد والحرية والاستقلال الجزائر، ومات عنها والدي وترك لها تقاعده ومنزله الكبير والواسع جدا، وهي تقول: ((هذا مهري الذي لم آخذه، لقد آثرني الله به في الدنيا، وما عند الله خيرٌ وأبقى..)).
أرأيتم يا عرب التطبيع والخيانة والذل والانكسار وأتباع الإنسانية والديانة الإبراهيمية؟.. اتركوا أمر الجهاد للأمة الإسلامية، ولقادتها الشجعان الصادقين، ولا تخشوا أمريكا والغرب والصهيونية العالمية التي فرَّت من أفغانستان والعراق، وادعموا الشعب الفلسطيني وقيادته المجاهدة بالسلاح وافتحوا الحدود وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
([1]) لعب الشيخ قصري عبد الحفيظ يرحمه الله دورا مهما بعد عودته من جهاد فلسطين إذ كان الفرد الذي اختبأ عنده الرئيس الراحل ( محمد بوخروبة – هواري بومدين ) سنة 1949م بتبسة أثناء خروجه إلى مصر، وقد أرسل مناضلو حزب الشعب إليه الأمر بتدبير أمر سفر المرحوم هواري بومدين ففعل، وأخرج من جيبه مبلغا ماليا يقدر بـ2000 فرنك قديم وقدمه لمحمد بوخروبة ليتابع سفره نحو مصر. حوار شخصي معه بتبسة شهر جوان 1993م.
([2]) هم: (الحاج قصري عبد الحفيظ، محمود عيساوي، صالح مناح، أحمد ماضوي المدعو أحمد لورس عضو المنظمة السرية –O.S- محمد العمري المدعو محمد كزبر..).
(الشروق الجزائرية)