كأنهم في مهمة تجاوزت حماية الأرض والمقدسات، بعد أكثر من نصف قرن على احتلال قدسهم، نظروا حولهم، فإذا هي يباب، حيث القوم تنافخوا شرفا، وتمخضوا تنديدا واستنكارا، ووعدوا بدراسة الموقف! – أكثر ما استفزني «دراسة الموقف» – وأمام هذا الواقع العربي المهين، خرج المقدسيون في مهمة تجاوزت حماية مساجدهم وكنائسهم وبيوتهم، خرجوا كأنهم يبثون الحياة في الروح العربية المهزومة، ليقولوا: الموضوع ليس له علاقة بالإمكانيات وموازين القوى العسكرية، المسألة إرادة الإنسان الفرد واستعداده اللطيف العادي المبتسم لمواجهة الاحتلال، باعتبار هذه المواجهة قضية حياة يومية، وهذه التحديات موجودة فقط للانتصار عليها.
أهالي الشيخ جراح في المحاكم منذ أربعين سنة، طبعا إذا فاضي نحكي عن القانون الدولي، فإنه سندا لهذا القانون ليس « لمحاكم الاحتلال» اختصاص على الأرض المحتلة، وليس للمحتل تغيير الواقع الجغرافي والديمغرافي للأرض المحتلة. وهنا يثور سؤال – لماذا انتظرت السلطة والأردن كل هذه السنوات من الصراع القانوني ولم يقدموا المستندات، ولم يثبتوا ملكية الأرض؟. طبعا – وحسب المختصين – فإن للأردن والسلطة الفلسطينية تحريك الأمر لدى المحكمة الجنائية الدولية.
تزامنا مع بدء الحملة على الشيخ جراح واقتحام الأقصى، «بدأ جيش العدوان الإسرائيلي» – أغلب الإعلام العربي يسميه جيش الدفاع – تمرينا تعبويا لمدة شهر للتدرب على سيناريوهات الحرب على جبهات الأردن وسورية ولبنان ومصر في ذات الوقت، وهو تمرين سنوي لاستعراض القوة بهدف إبراز تفوق دولة الاحتلال على الأنظمة العربية مجتمعة، وفجأة خرب المقدسيون الهدف الأساسي من هذا التمرين العسكري، وجعلوا من هذا التفوق غير ذي موضوع بالنسبة لهم، فلدولة الاحتلال أن تستعرض على الأنظمة العربية التي هي أصلا لا تنوي الحرب معها، أما المقدسيون فإن وجودهم يشكل جيلا بعد جيل، حالة نفي لمستقبل اسرائيل العدواني المحتل، وهو دون أي مبالغة الرد الأهم على تفوق العدو الإسرائيلي العسكري.
النضال الفلسطيني والمقدسي بالذات نوع جديد من النضال الشعبي، حيث لا مانديلا ولا غاندي فلسطيني على الأرض، ولكن كل شاب وطفل ورجل وامرأة هو قائد على الأرض، نضال أفراد متكاملين متضامنين باتفاقيات إنسانية مضمرة، وكل واحد منهم هو قائد شعبي بذاته دون أسماء تشهر، ودون أصنام تعبد، ودون قادة ملهمين، أي واحد منهم قائد جبهة وجبهة بذاته، لا خطة عندهم سوى وضوح الهدف ووضوح العدو!.
بالحديث عن وضوح العدو، فقد اخترع المقدسيون أمرين لمقاومة هذا العدوان، الأول الابتسامة مع النضال، وهذه موجهة لنا: معلش، لا تهنوا ولا تحزنوا إحنا عارفين إنكم كشعوب عربية لا حول لكم ولا قوة، بس لا تقنطوا، إحنا عارفين أن قلوبكم معنا وهذا يكفينا، وأي جهد تقومون به لنصرتنا هو لصالحكم حتى تدب فيكم وفي روحكم الحياة، إحنا بخير وها نحن في سجن المحتل أعلى كرامة وأكثر كبرياء منه، ومن سلطته العسكرية أيضا. أما الأمر الثاني فقد ابتدع المقدسيون «كوميديا مقاومة المستعمر» هي سوداء أحيانا لكنها معبرة عن روح الحياة التي يعيشها المقدسيون، انظر هذا الشاب وهو تحت إجراءات الاعتقال يقول للجندي «تبيع اللابتوب على خرابه»، وهذا طفل بكل هدوء يجلس في ساحة المواجهة يحل واجبه المدرسي قبل الالتحام ـ طبعا أمامه مستقبل ما بعد زوال الاحتلال ـ، هذه الأجيال تجاوزت الجامعة العربية، والحشد والأنظمة الثورية وغير الثورية، وردت على أقاويل «أن الفلسطيني باع أرضه» لتثبت أن الفلسطيني طليعة المناضلين بالتمسك بأرضه واسترجاعها.
اقتلعنا المقدسيون من كآبتنا، وقلة حيلتنا، وعقليتنا القائمة على حساب منطق المهزوم، ليقولوا لنا: تصرف كمنتصر، وناضل كمنتصر، واحمل قضيتك كمنتصر تصل منتصرا قريبا، ذكرنا المقدسيون أن «إسرائيل» قبل أن تكون دولة فصل عنصري، ودولة انتهاك لجميع أشكال حقوق الإنسان، هي دولة احتلال هذا بدؤها ومنتهاها، احتلال لا علاج له سوى أن يزول، هذا هو منطق وضوح العدو ووضوح الهدف، نعم أخذنا المقدسيون لهذا الزمن المقدسي البهي ذي الأنفة الإنسانية، والكبرياء المتواضع، ولسان حالهم يقول: إن غدا «لصانعه» قريب، عسى فاهمين على بعض جنابك؟!