ترتبط تلاوة القرآن في أذهان المسلمين برمضان، إذ يحرص كثير
منهم على تلاوته خلال شهر الصيام، كما تحتل أصوات قرائه محطات الإذاعة والتلفزيون قبيل
الإفطار وفي الفجر.
ولكن ما الذي يميز أصوات قراء القرآن عن غيرهم من الناس؟
لا يختلف قراء القرآن عن غيرهم من الناس في استخدام أصواتهم
في الكلام العادي في حياتهم اليومية، ولا تكشف أحاديثهم اليومية في الكلام العادي عن
أي شيء من قدراتهم الصوتية ومهاراتهم في الأداء. فهم عندما يمارسون حياتهم العادية
في البيت أو السوق أو مع أقرانهم يستخدمون درجة أصواتهم الطبيعية، أو ما يعرف بـ(طبقة)
الصوت الطبيعية، التي يستخدمها كل منا في كلامه.
ويختلف الناس فيما بينهم في طبقة الصوت الطبيعية لدى كل منهم.
فأصوات النساء في تلك الطبقة – وكذلك أصوات الأطفال ــ تتميز بحدة أكثر من أصوات الرجال.
وتتميز أصوات كبار السن بالرخامة أو الغلظة أكثر من الشباب. وبين هذا وذاك تختلف طبقة
الصوت الطبيعية لكل منا من حيث الحدة أو الرخامة لأسباب عضوية أخرى، غير الجنس أو السن.
ولا يتجاوز الشخص العادي هذه الدرجة (أو الطبقة) من الصوت
في معظم الأحيان خلال الكلام، وهذا ما جعل علماء الأصوات يطلقون عليها مصطلح «طبقة
الصوت الطبيعية» لهذا الشخص أو ذاك. ويمكن قياس درجة هذه الطبقة بمعرفة عدد ذبذبات
الوترين الصوتيين في الثانية خلال الكلام. وكلما زاد عدد هذه الذبذبات في الثانية،
كان الصوت أكثر حدة، أما إذا قل عددها، فإن الصوت يكون أكثر رخامة.
لكن ما يميز صوت قارئ القرآن، وأصوات المطربين والمغنين،
عن الشخص العادي هو أن لدى القارئ والمغنى القدرة على تجاوز طبقة صوته الطبيعية ــ
خلال القراءة والغناء. وهو يستطيع فعل ذلك بطريقتين:
•إما صعودا (أي بزيادة حدة صوته بما يعادل سلما موسيقيا كاملا
أو octave فوق
طبقته الطبيعية)، وهذا ما يعرف في الموسيقى العربية بدرجة «الجواب».
•وإما هبوطا (أي بزيادة رخامة صوته بما يعادل سلما موسيقيا
كاملا تحت مستوى طبقة صوته الطبيعية)، وهو ما يعرف في المصطلحات الموسيقية بدرجة «القرار».
ويستطيع قارئ القرآن المتميز أيضا، الانتقال بسلاسة وعذوبة
من طبقة صوتية إلى أخرى، أى من «قرار» ــ مثلا ــ إلى «جواب»، أو من «جواب» إلى
«قرار»، دون أن يتعرض صوته خلال الأداء إلى أي «شرخ» في الصوت، أو – كما يقول قراء
القرآن أنفسهم – دون أن «يخس» صوته. وهذا ما يميز أداء معظم قراء القرآن المحترفين.
ولدى بعض القراء والمغنين المتميزين ــ وهؤلاء قلة ــ علاوة
على ذلك قدرة أعلى من ذويهم في التلاوة والغناء تمكنهم من بلوغ جواب الجواب صعودا
(أي حدة)، أو قرار القرار هبوطا (أي رخامة).
ولا يبلغ القراء المحترفون هذه الدرجة من الإجادة في الأداء
إلا بعد تعلم وتدريب طويل. وهذا ما يفرق بين المحترفين منهم وغير المحترفين.
ويستطيع المستمعون معرفة القارئ المحترف المجيد من غير المحترف
وغير المتمرس خلال الأداء، بالتدقيق في أدائه وكيف ينتقل من طبقة صوتية إلى أخرى، وهل
يعتور هذا الانتقال أى شرخ في صوته أو لا. لكن العامل الأساسي الذي يميز القارئ المحترف
من غير المحترف هو قدرته على استخدام أكثر من طبقة صوتية، إذ تبلغ مساحة صوت معظم القراء
المحترفين ما يتجاوز سلما موسيقيا كاملا (أوكتافا كاملا ــ Octav). بل يستطيع بعض المتميزين منهم تجاوز
مساحة سلمين موسيقيين (أوكتافين).
أما القراء غير المحترفين فتغطي قدراتهم الصوتية مساحة تقل
عن سلم موسيقى واحد. وليس في مقدور معظمهم بلوغ طبقة الجواب صعودا، لكن بعضهم يستطيع
أحيانا بلوغ طبقة القرار هبوطا. ويفتقد القراء غير المحترفين إلى سلاسة الانتقال من
طبقة إلى طبقة، وغالبا ما تخونهم أصواتهم عند المحاولة.
لدى قراء القرآن المحترفين إذن قدرة صوتية فائقة، وسعة في
الأداء تمكنهم من استخدام ثلاث طبقات صوتية أو أربع هي:
1ــ طبقة الصوت الطبيعية (وهي طبقة متوسطة تستخدم غالبا في
الكلام العاي)
2ــ طبقة القرار (وهي أقل الطبقات حدة من الناحية الصوتية)
3ــ طبقة الجواب (وهي أكثر الطبقات حدة صوتيا)
4ــ طبقة جواب الجواب، أو قرار القرار (لدى قلة من القراء).
أما غير المحترفين فلا يستخدمون في قراءتهم ــ في معظم الأحوال
ــ سوى طبقتين:
1ــ طبقة الصوت الطبيعية
2ــ وطبقة القرار
ومما يميز تلاوة قراء القرآن أيضا شيوع ظاهرة الغنة، وهي
نطق بعض الأصوات عبر مجرى الأنف، خاصة صوتي النون والميم.
وقد انتقل شيوع هذه الظاهرة من قراءة القرآن الكريم إلى الغناء
العربى الحديث. واستغلها الملحنون باعتبارها ظاهرة محببة إلى الأذن العربية، فأخذوا
يعمدون إلى التطريب والتطويل في ألحانهم خلال أداء صوتي الميم والنون، لأنهما صوتان
ينفتح مجرى الهواء خلال النطق بهما، ويتيح هذا للمطرب الوقوف والإطالة خلال نطقهما.
وخير مثال لذلك أغنية أم كلثوم (حاسيبك للزمن)، كما أن في أغنيات فريد الأطرش نماذج
شبيهة.
هل عرضت كتب التجويد لظاهرة طبقات الصوت؟
يلاحظ المطلع على كتب التجويد ــ ومن أكثرها شهرة بين الدارسين
في مجال القراءات القرآنية كتاب «النشر في القراءات العشر» لابن الجزرى (المتوفى
٨٣٣ هـ) أن علماء التجويد يركزون اهتمامهم فيها على الأصوات العربية المفردة، مثل
صوت الباء (ب) أو السين (س) أو الميم (م) أو غيرها، فيصفون مخارج هذه الأصوات ويتتبعون
صفاتها المختلفة، كالترقيق والتفخيم، مثلا، ثم يشيرون لما قد يعرض لتلك الأصوات من
تغير في الصفات بسبب مجاورتها لأصوات أخرى تؤثر فيها.
وأفضى هذا التركيز على الأصوات المفردة إلى إغفال علماء التجويد
للظواهر الأخرى المهمة في التلاوة مثل:
• «التنغيم ــ Intonation» (وهو طريقة النطق التى نفرق بها في
الكلام بين الإخبار، والاستفهام، أو التعجب، أو النداء، أو غيرها).
• و«طبقات الصوت ــ Registers» (مثل القرار والجواب).
• و«درجة ارتفاع الصوت وانخفاضه ــ Volume».
• و«سرعة النطق ــ Tempo»، وغيرها.
وقد حفزنى هذا على درس بعض هذه الظواهر المغفَلة من قِبَل
علماء التجويد في بحث صوتي نُشر منذ فترة باللغة الإنجليزية في بريطانيا.
اهتمامات علماء اللغة المحدثين:
ولم يقتصر إغفال هذه الظاهرة على الباحثين القدماء من علماء
التجويد فحسب، بل أغفلها أيضا علماء اللغة المحدثون من العرب، لأنهم ركزوا بحوثهم
الصوتية على تحليل الأصوات المستخدمة في الكلام، إذ إن معظم الدراسات الصوتية في وقتنا
الحالي تتخذ من أصوات الكلام المنطوق مادة للبحوث فيها. وفي هذا الصدد أنجزت دراسات
صوتية متعددة عن أصوات اللغة العربية الفصحى، والأصوات في عدد من اللهجات العربية المعاصرة.
ولذلك لم يتعرض علماء اللغة العرب المحدثون بقدر علمى كاف للأصوات كما تستخدم في الغناء،
أو في تلاوة القرآن الكريم، أو في تلاوة آيات الإنجيل، أو كما تستخدم في المسرح أو
الإذاعة وغيرها.
علم الأصوات المغناة:
وكان هذا دافعا آخر إلى بحث هذه الظاهرة في فرع جديد من علم
الأصوات اللغوية، هو علم الأصوات المغناة (The Science of singing voice)، الذي يدرس أصوات اللغة خلال الغناء
كما يستخدمها المغنون. وتدور معظم البحوث في هذا العلم في الغرب على أداء مُغني الأوبرا.
ومن أعلامه المشهورين العالم السويدي يوهان سندبرج (Johan
Sundberg) الذي أصبح كتابه The
Science of singing voiceــ «علم الأصوات المغناة» عمدة في هذا المجال العلمي الدقيق.
ما الذي يميز قراء القرآن الكريم من مغني الأوبرا في الغرب؟
أظهرت المقارنة بين نتائج الدراسات الغربية التي أجريت على
مغنى الأوبرا والنتائج التي توصلتُ إليها على قراء القرآن الكريم في مصر أن ثمة
سمات صوتية مشتركة بين مغني الأوبرا المحترفين في الغرب وقراء القرآن المحترفين في
مصر، (من حيث نطق الأصوات وطريقة إنتاجها خلال الغناء أو التلاوة).
وتتضح هذه السمات في قدرة مغني الأوبرا المحترف، وكذلك قارئ
القرآن المحترف كليهما، على إسماع جميع فئات جمهوره حتى وإن كانوا في أقصى أطراف
القاعة التي يجتمعون فيها. ولا تتوفر هذه القدرة، بالطبع، لدى غير المحترفين في كلتا
الثقافتين الغربية والعربية بسبب فقدان غير المحترفين لعنصر التدريب.
وتتميز طبقة الجواب في التلاوة القرآنية لدى القراء المحترفين
ــ رغم ارتفاع حدتها صوتيا ــ بأنها أقل درجة من حيث عدد ذبذبات الأصوات فيها من نظيرتها
لدى المحترفين من مغنى الأوبرا في الغرب، الذين تتميز طبقة الجواب لديهم بارتفاع الذبذبات
أكثر. لكن القراء ومغني الأوبرا جميعا يتفقون في طبقة القرار.
كما تتسم طريقة قراء القرآن الكريم المحترفين في نطق الأصوات
بوجود ضيق نسبي في مجرى الهواء في منطقة الحنجرة، بينما تتسم طريقة مغني الأوبرا في
إخراج الأصوات بنوع من «الهسيس» بحيث يُشبّه الباحثون أصوات مغني الأوبرا خلال
أدائهم بصوت الناي.
ومن بين الظواهر الأخرى الفارقة بين قراء القرآن ومغني الأوبرا،
شيوع ظاهرة الغنة في تلاوة القرآن الكريم، التي أشرت إليها.
ولكن هذه الظاهرة غير مستحبة في الغناء الأوبرالي الغربي
بصفة خاصة، والغناء الغربي بصفة عامة. وهي لذلك ظاهرة قد تستنكرها أذن المستمع الغربي،
بل قد تستقبحها، وهي جديرة بالتناول في مقالة مستقلة.
(الشروق المصرية)