مهما حاولنا التحرك خارج السياق كما تفعل منصات النظام الرسمي بسعيها إلى التملّص من الانفجار الثوري العظيم كأنّه لم يكن فإنّ الراهن العربي والإسلامي اليوم لا يزال محكوما في المنطقة بتداعيات الثورة الشعبية التي انطلقت منذ أكثر من عشر سنوات. لا تتوقف منظومات الثورات المضادة عن شيطنة التحركات الشعبية المُطالبة بالتغيير عبر وصفها بالفتنة أو المؤامرة أو غيرها من آليات الشيطنة رغم مرور عقد من الزمن على الوقائع ورغم نجاح الثورات المضادة في استنساخ الاستبداد والانقلاب على الموجة الثورية الأولى.
لسائل أن يتساءل: لماذا يمعنُ النظام الرسمي العربي في شيطنة الموجات الاحتجاجية وهي التي سكنتْ وولّتْ؟ لمَ هذا الإصرار على مسخ مطالب التحرر والتحذير منها؟
خلافٌ حول الحصاد
فريقان يتواجهان اليوم على الساحة: فريق يشيطن الثورات ويراها مؤامرة لم تجلب غير الخراب والدمار والدواعش والفوضى، وفريق يقدّس الثورات ويراها أعظم ما أنجز الفعل العربي في طوره الحديث. الفريقان محقّان من زاوية النظر التي ينظران بها إلى ثورات الربيع ومن جهة الخلفيات التي تحدد الرؤية وتوجهها.
أما الفريق الأول فيتأسس موقفه على الفوضى والمجازر التي صاحبت الموجات الثورية وما خالطها من انقلابات وحروب أهلية فاقمت من أزمة الدول التي وقعت فيها مثلما هو الحال في ليبيا وفي سوريا مثلا. يقوم منطق هذا التصوّر على استفهام بديهي: ماذا ربحنا من هذه الثورات غير الخراب والموت والدماء؟ ثم أليست عودة الاستبداد وصموده دليلا على فشل الثورات وعلى وجاهة الشكوك حول مصدرها وحول توقيتها؟
في المقابل يرى فريق ثان أنّ الثورات الأخيرة منجزٌ عظيم لأنه نجح في ضرب أسس البناء الاستبدادي وتمكن من إسقاط مجموعة من أعتى الأنظمة الشمولية. بناء عليه فإن الخسائر المادية والبشرية ليست إلا ضريبة منطقية لعملية التحوّل السياسي والاجتماعي التي طال انتظارها. فالثورات جميعها عبر التاريخ لم تكن سلمية بل قامت على صراع مسلّح وكلّفت خسائر كبيرة في الأرواح والأموال كالثورة البلشفية أو الثورة الفرنسية مثلا.
هذا الخلاف حول حصاد الربيع صار اليوم مدفوعا بسرعة انحسار الموجة الثورية الأولى وعودة المنظومة القمعية والإعلامية إلى دورتها القديمة. لقد استعاد النظام الرسمي العربي مساحته القديمة أو يكاد وهو يحاول اليوم بكلّ ما أوتي من جهد منع تجدد الموجات الثورية بكل الطرق والوسائل ومهما كلّفه ذلك من ثمن.
أخطر المكاسب
من الطبيعي جدا أن تدافع الثورة المضادة على مكاسبها مستفيدة من ارتباك القوى الثورية وتشرذمها وحالة الصدمة التي أصابتها بسقوط الاستبداد. ومن المنطقي أن تقاتل في سبيل منع الثورات من النجاح لأنها ستخسر كل مكاسبها التي راكمتها منذ عقود من عمر القمع لكنها إن نجحت في ذلك فإنها لن تستطيع استعادة واحد من أعظم مكاسب الثورات ومن أخطرها على الإطلاق.
إن أخطر مكاسب الربيع إنما يتمثل في الكشف الكبير الذي حققه لصالح الوعي الجمعي على مستوى طبيعة الفواعل داخله ووزن كل فاعل فيه. لقد راكمت الشعوب منذ انطلاق الثورات إلى اليوم مكاسب وقناعات ورؤى كانت تحتاج عقودا لفهمها وتفكيك مضامينها وتبيّن شفرتها ودلالاتها.
إنّ ما تُحاربه أبواق الثورات المضادة اليوم هو هذا الوعي الجديد القادر على تغيير بنية الشخصية العربية المسلمة بشكل سيمنحها مناعة قوية ضد التزييف والتضليل والإيهام بالاستقلال والدولة الوطنية. أشد ما تخشاه الأنظمة الحاكمة هو تجدد الموجات الثورية لأنها تُدرك أن شروط الانفجار لا تزال قائمة بل هي اليوم أشد وأخطر منها بالأمس
من كان يتصوّر أن يكون النظام الرسمي بهذه الوحشية وأن يصل به الأمر إلى قصف القرى والمدن بالقنابل والأسلحة الكيماوية المحرّمة دوليا؟ من كان يصدّق أن يتواطأ الغرب المتشدق بحقوق الإنسان مع الطغاة العرب في قمع الشعوب وحرمانها من أبسط حقوقها؟ من كان يظن أن تكون النخب العربية على هذا القدر من الخيانة ومن التآمر ضد الثورات وضد الشعوب؟ من كان يعتقد أن المنطقة العربية لا تزال واقعة تحت أبشع أنواع الاحتلال؟
لقد شكّلت السنوات العشر الماضية صدمة حقيقية للوعي الجمعي العربي حيث سقطت صروح كبيرة وانهارت منظومات فكرية برمتها وتفككت أحزاب ومجاميع ومنظمات كانت إلى وقت قريب تُحسب على الثورات وعلى التغيير وعلى المعارضة.
هذا المكسب هو في نظر كثيرين أهم ما أنجزه ربيع العرب بأن رفع الغبار عن مكونات المشهد وفضح انتماءاتها وخلفياتها وأدوارها. هذا الكشف هو بمثابة فرز لسطح الواقع الاجتماعي والحضاري بشكل يسمح بالتأسيس عليه والبناء على قواعد صلبة على خلاف القواعد التي تأسست عليها مراحل سابقة من تاريخ الأمة مثل تلك التي أعقبت خروج المحتل العسكري في منتصف الخمسينيات.
هشاشة الاستبداد وخيانة النخب وعجز الأحزاب وتآمر الخارج وتوحش الأنظمة لم تعد قناعات نظرية، بل صارت حصيلة تجربة وممارسة وهو الأمر الذي يعطيها زخما قادرا على تحويلها من معطيات نظرية إلى مكونات أساسية من مكونات شخصية الفرد والمجتمع.
إنّ ما تُحاربه أبواق الثورات المضادة اليوم هو هذا الوعي الجديد القادر على تغيير بنية الشخصية العربية المسلمة بشكل سيمنحها مناعة قوية ضد التزييف والتضليل والإيهام بالاستقلال والدولة الوطنية. أشد ما تخشاه الأنظمة الحاكمة هو تجدد الموجات الثورية لأنها تُدرك أن شروط الانفجار لا تزال قائمة بل هي اليوم أشد وأخطر منها بالأمس فحالة الاستقرار اليوم هي حالة زائفة تخفي هدوء ما قبل العاصفة.
إنّ مكسب مكاسب الثورات هو سقوط كل الأقنعة التي كانت تحجب حقيقة الواقع وذوبان طبقات التزييف التي كانت تحول دون إدراك طبيعة المشهد ودون معرفة سبب تخلف الأمة وانكسارها. نقف اليوم أمام مرحلة جديدة من مراحل تاريخنا المعاصر وهي المرحلة التي ستعيد تشكيل أولويات الشارع العربي وعلى رأسها ضرورة مواجهة الاستبداد مهما كان الثمن ومهما كانت التضحيات لأنه قد بلغ آخر أطواره ولن يكون قادرا على الصمود والمواجهة بعد انكشاف دوره ووظيفته.
الأُمِّية الدينية تغذي سوق الدجل
لماذا تراوح عملية التطبيع التركية-السعودية مكانها؟