آراء ثقافية

في كهفي الأخير.. هدوء ووهم

في مسرحية الحكيم يستيقظ الفتيان الثلاثة: مرنوش، يمليخا، مشلينيا، ويدركون أن تغيرا قد حدث لكنهم لا يعرفون مداه- أ ف ب

كان لدي دائما "كهف" خاص: مكان متقشف للغاية، أمضي فيه وقتا -يطول أو يقصر بحسب مقتضيات الأحوال-، وبمرور السنوات والتجارب والمعارف، أصبح اختياره سهلا، وقد اعتاد من يعرفني جيدا على نزقي هذا، أنسحب من كل المشاغل وأنزوي بإرادتي.

 

في كهفي الحالي أشعر بهدوء فريد؛ مع كونه ليس اختياريا بالمطلق، لكني منشغل بوهم أني حر تماما.

كهفي كان على الدوام خليطا من كهوف شتى. أذكر جيدا المرة الأولى التي تكون فيها ذلك الخليط، والكتابين اللذين مزجاه، أذكر الصورة على غلاف الكتاب الأول، الجملة الأولى في أولهما: "كتبت أهل الكهف سنة 1929 ونشرت لأول مرة سنة 1933"، وقلت لنفسي لا يمكن أن أنسى هذه اللحظة، فبعدما دفعت بثمن الكتاب للبائع نظرت مليا لصورة الغلاف ثم قلبت صفحاته، وتوقفت عند أواخرها عند هذه الجملة فانحفرت في ذاكرتي الصلدة.

 

نصف قرن بالتمام تفصل بين كتابته وبين تقليبي لصفحاته، ثم قرأت الصفحة التالية: "أول مقال نشر عن كتاب "أهل الكهف" لفضيلة الشيخ مصطفى عبد الرازق شيخ الأزهر (الأسبق)"، ورحت أفكر في هذه الجملة: "و"أهل الكهف" نسمع قصصهم من قارئ السورة في المسجد يوم الجمعة، ويجري ذكرهم على ألسن الناس مثلا مضروبا لمن ينام نوما طويلا".

كتب الشيخ مقاله القصير ذاك فور صدور مسرحية توفيق الحكيم، الذي لم يكن يعرفه، وكنت أعرفه (الحكيم) إلى حد ما، قرأت له قليلا، وشاهدت أفلاما مأخوذة عن مسرحياته. لوهلة التبس علي الأمر: شيخ الأزهر يكتب نقدا فنيا، لكني عرفت فيما بعد أن الشيخ لم يتولى المشيخة إلا عام 1945.

بالطبع استغربت قول الشيخ أن المصلين يسمعون "قصصهم كل جمعة"، فكم من جمعة صليتها ولم أسمع آيات سورة الكهف، لكني أعرف جيدا مضرب المثل، وكنت مغرما بنجاح محاولاتي في العزلة الاختيارية؛ نوما وصحوا.

السورة القرآنية والمسرحية مزجا معا، ثم بعد بضعة أيام وقعت على كتاب "مدرسة الحكمة" للدكتور عبد الغفار مكاوي، وكان تاريخ صدوره أيضا مما لا يمكن نسيانه؛ فحفر في الذاكرة (1967)، وكما هي العادة قلبت الصفحات ليصادفني عنوان: "كهف أفلاطون"، وهذه الجملة التمهيدية: "يمهِّد أفلاطون للحديث عن رمز الكهف في نهاية الباب السادس من جمهوريته.

 

لكن الحديث نفسه يبدأ مع بداية الباب السابع". كان الكتاب يحتوي عدة مقالات فلسفية لفلاسفة عدة من اليونان والعصور الوسطى والفلسفة الحديثة، منهم هيراقليطيس، وسقراط، باسكال، نيتشه، هيدجر، وألبير كامي.

 

وقد ضاعت مني نسخته الورقية فبحثت عنه حتى عثرت على نسخة إلكترونية، واستعدت معها أجواء القراءة الأولى بزخم مراجعة واستفسار عما بقي من ذلك المزج القديم، وللمصادفة وجدت جملة كأني كاتبها “الفلسفة ليست مجرد إجابات تحفظ؛ لذا إن أردت أن تتفلسف فعليك خوض تلك التجربة الذاتية بنفسك".

هكذا صنعت "كهفي" الخاص مازجا تشبعي بروح القصص القرآني المحير، برؤية الحكيم، مع أمثولة أفلاطون المثالية التأسيسية، والمزيج بلا شك هو تجربتي الذاتية.


اقرأ أيضا : سير الملوك ولقطات "إنسانية" بائسة


الصورة الأولية التي يرسمها أفلاطون على لسان سقراط- بطل كل محاوراته وكتبه- مذهلة، يكفيني تذكر طرفا منها: "أناس يقيمون تحت الأرض في مسكنٍ أشبه بالكهف، مدخله الممتد إلى أعلى يواجه ضوء النهار، في هذا المسكن يقيمون منذ الطفولة مقيَّدين بالسلاسل من سيقانهم ورقابهم، حيث يظلون في نفس الموضع، فلا يملكون إلا أن ينظروا إلى الأمام ليروا ما يواجههم، إنهم- بسبب هذه القيود والسلاسل- عاجزون عن إدارة الرؤوس فيما حولهم".

 

الوصف طويل، والأمثولة هائلة التفاصيل، احتفظت ذاكرتي بتلخيصاتها "المدرسية"، التي تقدمها المعاجم والقواميس، فالكهف: "يرمز إلى أن النفس الانسانية في حالتها الحاضرة، أي خلال اتصالها بالبدن، اشبه شيء بسجين مقيد بالسلاسل، وضع في كهف، وخلفه نار ملتهبة تضيء الأشياء وتطرح ظلالها على جدار أقيم أمامه، فهو لا يرى الأشياء الحقيقية بل يرى ظلالها المتحركة، ويظن بها حقائق.. والكهف في هذه "الاسطورة- الأمثولة" هو العالم المحسوس، والظلال هي المعرفة الحسية، والأشياء الحقيقية التي تحدث هذه الظلال هي المُثُل"، والفيلسوف بالنسبة لأفلاطون عليه أن يرتقي بنفسه ويفكر في المُثُل الجوهرية التي تكمن وراء المظاهر الخارجية، ويعرف الحقيقة ويميز العَرَض من الجوهر.

في مسرحية الحكيم يستيقظ الفتيان الثلاثة: مرنوش، يمليخا، مشلينيا، ويدركون أن تغيرا قد حدث لكنهم لا يعرفون مداه وإلى ماذا أفضى بما يحبون، فيطلب مرنوش الذهاب لرؤية زوجته وابنه، والراعي، يمليخا، يريد الاطمئنان على أغنامه، في حين يذهب، مشلينيا، ليهذب من شكله ويحلق ذقنه كي يلتقي بحبيبته بريسكا.

 

ويكون الراعي، يمليخا، أول من يصطدم بالواقع، ويدرك أنهم الثلاثة غرباء عن هذا العالم، إلا أن مرنوش يتهمه بالجنون، على أمل اللقاء بابنه وزوجته، وكذلك يأمل المحب، ويتركهما يمليخا ويعود إلى الكهف وحيداً.

هذا الجزء من المسرحية هو العنصر المؤثر في مزيجي الخاص، صحيح أن الثلاثة سيذهبون إلى الكهف ليموتوا هناك باختيارهم لكن إدراك أنهم غرباء عن العالم تغرس بذرته هنا، وعلى الرغم من أن بريسكا "الجديدة" تحب مشلينيا فعلا، وقد أبرز الشيخ في عرضه للمسرحية ذلك الجانب: "وفيها حب -إذا كان لا بد للناس من حب- وإن لبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا"، إلا أن الحب لا يبدد شعور الاغتراب الطاغي.

في "كهفي" المتجدد أحاول مواجهة الاغتراب وليس الاستسلام له، لا أبحث عن المثل بل أحاول تفهم وإدراك العالم، مصنفا المظاهر ومحاولا إدراك آليات عملها، العزلة ليست اعتزالا، بل اتصالا من نوع خاص.

بقي مسألة الغلاف، ذلك أن الفنان جمال قطب، الذي رسم الغالبية العظمى من إصدارات "مكتبة مصر" رسم بريسكا في المقدمة بحيث تحتل الجانب الأبرز من الصورة، وتهيمن على مخيلة المتلقي، في حين يظهر الفتيان الثلاثة بصورة "شبحية" في الخلفية، وهو ما يعطي انطباعا بأنها الشخصية المركزية في المسرحية، على عكس الحقيقة، وقد تكرر حضور تلك الصورة في ذهني مئات المرات، لأنه صادف أن سكنت فترة ليست قصيرة من الزمن على بعد بضع مباني من بيت الفنان، وصادفته كثيرا.

 

وفي مرة استوقفته لأتأكد: حضرتك الأستاذ جمال قطب، فأجاب: نعم الفنان وليس الشيخ، واستوضحته فقال إن الكثير من المتصلين بهاتف المنزل، أو الذين يطرقون بابه يخلطون بينه وبين سميّه الشيخ جمال قطب.