في اليوم الأول من رمضان، 13 أبريل/نيسان، وجد شبابُ القدس مدرجَ باب العامود مُغلَقاً بسواتر حديديّة وضعتها قواتُ الاحتلال. كان ذلك يعني أنّهم فقدوا حقّ الجلوس في مكانهم المُفضّل للقاء في ليالي رمضان، فاشتعل فتيلُ المواجهات وما زالت مستمرة لليلة الثالثة عشرة على التوالي.
ماذا حدثَ في الشَّارع حتى الآن؟
يمكن القول إنّ المواجهات مرّت بعدة مراحل نحو التصاعد الذي نراه اليوم. في بدايتها اتخذت شكلاً عفويّاً مُعتمِداً على مجرد التواجد؛ مئات الشّبان لم يستسلموا للتقييد الإسرائيليّ فجلسوا أو تمشوا حيث أمكن في محيط المدرّج المغلق. لكن "إسرائيل" لم تكتفِ بحرمانهم من المدرّج، بل أرادت أيضاً تحويل المنطقة إلى مجرد "طريق للمرور" تُمنع فيه كلُّ أشكال التجمع، فعزّزت قواتِها في المنطقة، وأفلتت أسلحتها على الشبان. زاد القمعُ الشّبانَ إصراراً، فتصاعدت المواجهات لتشمل ضرباً بالحجارة والألعاب الناريّة تجاه الجنود وتحصيناتهم العسكريّة.
أُلقي في النار حطبٌ جديدٌ بعد دعوةٍ أطلقتها تنظيمات المستوطنين للتجمع في باب العامود (الخميس 22 نيسان/أبريل) لاسترداد "الشرف اليهوديّ"، وإسناد الشّرطة، فتجمّع الشبان لملاقاة من يتوعدهم جهاراً نهاراً بالقتل. لا ينفصل عن ذلك تصاعدُ حدّة اعتداءات المستوطنين مؤخراً.
إلى أن وصلنا إلى اليوم: رقعة مواجهات تتسع جغرافيّاً: من باب العامود إلى شارع صلاح الدين ووادي الجوز والطور وسلوان والشيخ جراح والعيساوية، ثم عدة نقاط في الضفة ومظاهرات في غزّة. شريحة جديدة من الشبان لم تسبق لها المشاركة في مواجهات أو نشاطات سياسيّة، ولا تبالي أمام قمع الاحتلال. وأدوات مقاومة تتصاعد؛ تكسير سيارات الشرطة وكاميرات المراقبة، وإحراق البؤر الاستيطانيّة وملاحقة المستوطنين، وصلاة التراويح عند الباب. فيما سُجلت مئات الإصابات والاعتقالات.
في محاولة النظر إلى هذه المواجهات وتتبعها، يمكن القول إنّها تستند إلى ثلاثة أعمدة تُساعد في فهمها وتحليلها، وهي عوامل مترابطة ببعضها البعض: باب العامود وعلاقة النّاس به، اعتداءات المستوطنين، وعملية الهندسة الاجتماعيّة العميقة التي تقودها "إسرائيل" على شباب المدينة.
ما الذي يُزعج الاحتلال في باب العامود؟
باب العامود هو العنوانُ الأبرز لهذه المواجهة، والحفاظ على حقّ الجلوس فيه هو بكلِّ بساطة ما أدّى لاندلاعها. يتشابك في هذا أمران: باب العامود كمكانٍ فلسطينيّ عربيّ استعاده الناس وكثّفوا حضورهم فيه خلال العقد الأخير وباتوا غير مستعدين للتفريط به، وما يرتبط بذلك من إمكانيات التجمع والتآزر يوفرها ذلك المكان، وهو أمرٌ لا يُريده الاحتلال بطبيعة الحال.
استندت تلك الاستعادة إلى سلسلةٍ من المظاهرات والتجمعات الشبابيّة للسمر والتجوال، والفعاليات الترفيهيّة الثقافيّة التي لا تخلو من الطابع السياسيّ، كان باب العامود ميداناً لها. وللباب من الميّزات ما يؤهله لأن يكون مركزاً لهذا النشاط، فهو وجه المدينة والباب الرئيس الذي يفد معظمُ الناس من خلاله إلى البلدة القديمة والأقصى والقيامة والأسواق، وعنده تنتهي شبكةُ المواصلات القادمة من شمال القدس وجنوبها.
شيئاً فشيئاً، أصبح مدرج باب العامود مكاناً للقاء الأصحاب وشرب القهوة، كأنّه غرفة المعيشة التي تلتقي فيها أفراد عائلتك تناقش مسائل الحياة. يتضاعف هذا الأمر في رمضان، ففيه تخرق القدسُ عادتها في النوم باكراً، فيظلّ الباب مشغولاً بالناس حتّى ساعةٍ متأخرةٍ من الليل.
ما بين 2011 حتى 2017 تقريباً، شهد مدرج باب العامود مظاهرات متلاحقة: في ذكرى النكبة والنكسة، وإسناداً لإضرابات الأسرى، وأهالي الشهداء المحتجزة جثامينهم، وحراك "برافر لن يمر"، وقطاع غزّة، وتصدياً لعدوان المستوطنين في "يوم القدس". عدا عن الفعاليات التي تختلط فيها السياسة بالمجتمع؛ فعالية "بسطة فرح" للترفيه عن الأطفال، وكرنفال "القدس لنا" لمواجهة مهرجان الأنوار التهويدي، وأطول سلسلة قراءة حول سور المدينة. هكذا حَفَرَ باب العامود مكانتَه في وجدان الناس بما احتضنه من هتافاتٍ وطنيّة خلال تلك المظاهرات، وبما شهده من قمع لها بمختلف الأسلحة.
في وسط هذا كلّه، جاءت هبّة القدس عام 2015، فأضافت بالدمّ بعداً جديداً للمكان، وأصبح البابُ مكاناً للمواجهة المباشرة مع قوات الاحتلال. بدأت بعدها سياسات تثبيت الهيمنة عليه: تفتيش مذلّ ومكثّف للشبان، ومنعٌ لهم من الجلوس فيه. ثمّ إضافة الكاميرات والسّماعات والكشافات، وتكثيف وجود الشرطة، وبناء 3 أبراج عسكريّة للمراقبة، وتغيير معالم الحديقة الملاصقة له، ومؤخراً تسمية المدرج على اسم جنديّةٍ قتيلة.
ليست هذه المرّة الأولى التي يُدافع فيها النّاس عن حقّهم في الجلوس عند باب العامود. بعد تصاعد الإعدامات الميدانيّة في الباب (2016) ومحاولة توظيف ذلك لترهيب الناس ومنعهم من الوصول إلى الباب، تداول الناس: "يلا ننزل نشرب قهوة في باب العامود". كانت تلك القهوة، وما رافقها أحياناً من أغانٍ أو حتى الدعوة للقراءة المشتركة، عملاً سياسيّاً يسعى للحفاظ على حقّ التواجد في المكان، ويؤدي الوفاء لحضورٍ تصاعد وتراكم.
وإن كان الاحتلال لا يستطيع محو التاريخ وقتلَ ذلك الحضور كليّاً، فإنّه يعملُ على طمسِهِ ومنعِ تحويله إلى قوّةٍ دافعةٍ تناهضُ سياساتِه، وبالذات ما يتعلق منها بتفكيك المدينة وهدم نسيجها الاجتماعيّ. منذ احتلالها، سعت "إسرائيل" إلى إعدام إمكانية أن تكون القدسُ مدينةً جامعةً للفلسطينيّين، فعزلتها عن امتدادها الطبيعيّ في الضفّة، وحاصرتها بالحواجز والجدار، وغيّبتها عن يومياتهم. أما أهلُ المدينة، فسعت إلى أن يُصبحوا مجرد "سكان" يعيشون في أحياء مُشتتة تخترقها المستوطنات وشوارعها، لا تجمعهم همومٌ مشتركةٌ ولا تحركات جماعيّة، ولا يتحدون في مواجهتها.
من هنا جاء سعيها لفرض واقعٍ جديد في باب العامود، ومحاربة التجمعات فيه، لأنّ تلك التجمعات التي تكثفت بفعل هذا الحضور ما هي إلا خطوةٌ نحو قلب الطاولة على سياسات التفكيك والتجزئة - "بدهمش الناس تتجمع"، بلغة أهل القدس المباشرة. وهو أمرٌ معروف قديم في حرب الاحتلال على الأقصى، إذ يسعى لتحويله إلى مجرد مكانٍ لأداء الصلوات الخمس، مع محاربة تعزيزه كمكانٍ جامعٍ يلتقي فيه الناس ويجسّدون طموحاتهم السياسيّة والاجتماعيّة المشتركة.
اعتداءات المستوطنين
"العامود الثاني" في هذه المواجهة: ذراعُ الاحتلال البشريّ المسمى "مستوطنين" والذي -بخلاف ما قد يحصل مع دولته- لا تحدّه أعراف دبلوماسيّة ولا تضبطه كاميرات إعلام أجنبية. لا يمرُّ شهر في القدس إلا ويتعرض شابٌ للاعتداءات من المستوطنين، خاصّة في غرب المدينة حيث يعمل الآلاف من شباب المدينة في المطاعم والمرافق العامة وكسائقي تكسي وحافلات. يتراكم القهر أكواماً فوق أكتاف هؤلاء الشباب الذين لا ظهر لهم، والتاريخ لا يبخل علينا: أبو خضير، ويوسف الراموني، وغيرهما.
تمرّ كثير من تلك الاعتداءات بصمت، جلّها لا يصل إلى آذان الإعلام. أما القليل الذي يصل فإنّه كافٍ ليكشف لنا عن ذلك الحقد الطاغي بأشكاله من ملاحقة الفلسطينيين ورشّهم بغاز الفلفل أو طعنهم أو ضربهم وإفلات الكلاب عليهم. أواخر فبراير/شباط، وثّق فيديو جريمة الاعتداء على إبراهيم حامد، سائق مقدسيّ في وسط حي يهوديّ، مما أفقده السيطرة على مركبته وسط قطيع هائج، فانفلتت لتدهس مستوطناً بالخطأ. وقع ذلك في خضم الاحتفالات اليهوديّة بـ"عيد المساخر" الذي تتصاعد فيه اعتداءات المستوطنين، ويمكن لذلك الفيديو أن يُنبئنا بما حصل مع العشرات غير ذلك السائق.
والمستوطنون واعتداءاتهم ليست في غرب المدينة وحدها. مطلع هذا الشهر استفاق الناس على خبر تسريب 3 عقارات لجمعيةٍ استيطانيّة في سلوان. وها هم يواجهون خطر الترحيل في الشيخ جراح لصالح المستوطنين أيضاً. وفوق ما تبقى من أراضيهم تحفر جرافات الاحتلال مسالك جديدة للقطار الخفيف وأنفاقاً وشوارع سريعة، كلّها: ليصل المستوطنون إلى القدس أسرع وأكثر. وفي الأقصى، يُقهر الناس يومياً بمشاهد المستوطنين يصلون علانيّة و"يتجولون" على راحتهم في آخر ما تبقى للمقدسيين في هذه المدينة.
في السياق الأعم، تأتي هذه المواجهات في خضم عدوانٍ استعماريٍّ مكثّفٍ ومتعدد الأدوات تصاعدت مظاهره في السنوات الأخيرة، وتواجهه القدس وحيدةً. كلّ ما يمكن أن تتخيّلَه يحدثُ في هذه المدينة المنكوبة، وكلّ من يمكن أن تتوقعه يعمل على تدميرها: نخبٌ محليّة من رجال الأعمال، وجهاتٌ رسميّة إسرائيليّة بدءاً من ديوان رئيس الحكومة ومروراً بأجهزة الأمن والمخابرات، ونزولاً عند أصغر مركزٍ جماهيريّ يُنظّم نشاطاً للفتية، ومؤسسات غير أو شبه حكوميّة إسرائيليّة تساند الحكومة وتملأُ أيَّ فراغ تتركه.
قمعٌ مباشر وآخر أساسه الضبط والاحتواء. هدمٌ للبيوت (نسبة غير مسبوقة من الهدم الذاتي خلال فترة كورونا عام 2020)، اعتقالات وإبعادات متكررة للمناضلين، ومنع لأي شكلٍ من أشكال التنظيم السياسيّ والاجتماعيّ، ومنع لأي نشاط لا يحمل تصريحاً إسرائيلياً حتى لو كان احتفالاً بعيد الأم، وقتل ممنهج للحركة التجاريّة، واعتداءاتٌ في الأقصى تتصاعد ولا تجد من يردعها.
وفي مستوى الاحتواء: ملايين الشواكل تصرف شهريّاً على كل ما يُمكنه أن يفرّغ الوجودَ الفلسطينيَّ في القدس من معناه السياسيّ. مؤسسات رسميّة وغير رسميّة فتحت في السنوات الأخيرة فروعاً لها في قلب الأحياء الفلسطينيّة، وتغلغلت إلى مستوياتٍ غير مسبوقة، وهو أمرٌ تضاعف في ظلّ الكورونا (فها هو الضبطُ الناعم يدخلُ إلينا من باب الصحّة والحرص على حياة الناس، فنزل رئيس البلدية ونزل جنود الجبهة الداخلية يوزعون المعونات للناس)، تصاعد في انتشار الشرطة الجماهيريّة وانخراطها في حلّ المشاكل، وخاصّة من خلال ما تسميه مراكز "الخدمة المدمجة"، في صور باهر وعند حاجز مخيم شعفاط.
عشرات المدارس الجديدة التي بنتها بلدية الاحتلال لاحتواء المزيد من الطلاب ضمن منهاجها التعليميّ وأجندتها، تفعيلٌ لبرامج الخدمة المدنية، عملٌ مكثف من مختلف الأطراف على "تأهيل" الأطفال بعد خروجهم من الاعتقال. دفعٌ محمومٌ للشبان للانخراط في كل برنامجٍ إسرائيليّ: من منحةٍ لتعلّم اللغة العبرية، إلى منحةٍ لدراسة أعلى الشهادات الأكاديمية في جامعات إسرائيلية. في قلب كل ذلك، تأمل "إسرائيل" أن تصنع "قيادات" محليّة جديدة لتكون رافعة لخطابٍ حقوقي خدماتيّ منزوع السياسة والمواجهة. هكذا هدمت بُنانَا التنظيميّة الوطنيّة وسعت لاستبدالها ببنى تنظيمية جديدة تتحكم بها هي وتخدم أجندتها.
الأمل الباحث عن إرادة سياسيّة
إنّ العدوان المكثّف الذي وصفنا، ورغم كونه جزءاً أساسياً من سياسات "إسرائيل" بالعموم، إلا أنه اتخذ شكلاً أكثر تحديداً وعمقاً وأوسع انتشاراً في السنوات الأخيرة كردة فعلٍ استعماريّةٍ على هبّات شعبيّةٍ وارتفاعٍ في معدلات إلقاء الحجارة. جاءت كثيرٌ من خطط الاحتواء تلك بعد هبّة أبو خضير، وهبّة باب الأسباط، وجاءت لتنفيذ ما حسمته "إسرائيل" في موقفها من القدس مؤخراً: السيادة لها، ولن تسمح بتقسيمها، وعليها أن تحوّل هؤلاء المقدسيين، والذين لا يمكن تهجيرهم (لأسباب تقنية)، إلى كائناتٍ ممسوخة الهوية تدور في فلك مصالحها الشخصيّة فقط، وتُسقط المواجهة من خياراتها.
وبالنظر إلى هذا وإلى مشاهد باب العامود، ينبعث الأملُ في نفوس أهالي المدينة؛ لا شيء يبقى على حاله، جيلٌ استهدف بأعقد جهاز استعماريّ يرفع رأسه من قلب هذا القهر وينضمّ للشارع غير آبه بكاميرات مراقبة، ولا حريصاً حتى على التلثم، "ولا يفرق معه اشي"، وكأنَّ كلَّ تلك السياسات التي اشتغلت على صهر وعيه لم تؤدِ كامل "واجبها".
لكنَّ هذا الأمل، وهذا الوعي بعمق المشروع الإسرائيليّ وتوسع أدواته يعني، فيما يعنيه، ضرورةَ التفكير بممكنات الفعل لإنقاذ المدينة وإسناد أهلها أمام ما يقع عليهم أو مما سيقع في قابل السنوات كردٍ استعماريّ آخر على المواجهة الحالية. وهو تفكيرٌ يحتاج رؤية وطنيّة تحمل مشروعاً مضادّاً، وإرادةً سياسيّة صادقة تتألم لما يجري في القدس، ولا تكتفي بالتغني بها شعاراً. ولا ننسى طبعاً أن في المواجهة ويومياتها ما يصنع الوعي ويصقله.