مما ابتلانا الله به في هذا الزمن، أن كل من هب ودب، صار يطاول الأئمة الكبار، والعلماء الثقات، الذين أفنوا زهرة أعمارهم، وكل حياتهم في البحث العلمي، فترى في كل عام عند الحديث عن زكاة الفطر، من يتطاول على أئمة أفتوا بجواز إخراجها نقودا، فيزعم أن من يقول بهذا الرأي فهو يخالف السنة!
إن زكاة الفطر عبادة مالية تؤدى في شهر رمضان، وقد شرعت لتعالج أمرين مهمين، فهي كما قال ابن عباس: طعمة للمساكين، ومطهرة للصائم من اللغو والرفث. فهدف يخص الصائم، من علاج ما يقع منه من تقصير في عبادته، كشأن السنن والنوافل في الصلوات، شرعها الإسلام لتكون جوابر لأي تقصير يقع منه في الصلاة. وكذلك زكاة الفطر فهي علاج لما عسى أن يقع من الصائم من لغو، أو تقصير.
وهدف آخر اجتماعي إنساني، وهو طعمة للمساكين، أي: إشعار الفقراء والمساكين في هذا الشهر، وفي عيد الفطر المبارك، بنعمة المال والطعام، وهو ما تمتاز به العبادات في الإسلام، فهي تجمع بين جانبي العبادة، والمواساة للفقير، والتآخي الإنساني، ولذا كان بعض السلف يعطون الرهبان من صدقة الفطر، عندما رأوهم محتاجين، ولم يقتصر أداؤها على المسلم الفقير فقط.
وبناء على مراعاة مصلحة الفقير وفق تشريع الإسلام للزكاة، هل تؤدى الزكاة مالا، أم حبوبا؟ كان الخلاف بين الفقهاء، فالجمهور (مالك والشافعي وابن حنبل) يرون أنها تؤدى حبوبا. وأبو حنيفة وآخرون يرون أن تؤدى الزكاة بالحبوب أو القيمة المالية.
من أجاز دفع الزكاة مالا؟
لقد أجاز أن تدفع زكاة الفطر مالا كل من هؤلاء: عمر بن عبد العزيز، والحسن البصري، وعطاء، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه، ومن المعاصرين: الأزهر الشريف ومعظم علمائه، وعلى رأسهم: محمد أبو زهرة، ويوسف القرضاوي، وغيرهما.
لماذا أمر بها صلى الله عليه وسلم طعاما؟
ويعلل العلامة القرضاوي في موسوعته الرائعة: (فقه الزكاة)، لماذا فرض النبي صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من الأطعمة في زمانه، فقال: لسببين: الأول: لندرة النقود عند العرب في ذلك الحين، فكان إعطاء الطعام أيسر على الناس. والثاني: أن قيمة النقود تختلف وتتغير قوتها الشرائية من عصر إلى عصر، بخلاف الصاع من الطعام فإنه يشبع حاجة بشرية محددة، كما أن الطعام كان في ذلك العهد أيسر على المعطي، وأنفع للآخذ). فقه الزكاة (2/955).
تطور الزمن وحاجة الفقير:
إن الذين يشددون في قضية زكاة الفطر، يتناسون أو يجهلون أمرا بالغ الخطورة الآن، وهو أن الزكاة جعلت لتحقيق مصلحة للفقير، ما لم تخالف الشرع، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: "اغنوهم في هذا اليوم" أي: اغنوا المساكين في يوم العيد عن ذل السؤال والحاجة، والإغناء يتحقق بـ قيمة زكاة الفطر لا بالحبوب فقط.
كما أن الحياة الآن قد تطورت تطورا هائلا، ومعظم من يؤدون الزكاة الآن لا يقرعون باب الفقير، ويحملون بأيديهم أكياسا من الأرز، أو بعضا من التمر أو صاعا من الشعير، بل الآن أصبحت بضغطة زر من على الموبايل يقوم المزكي بأداء زكاته، فهو يعلم أن الزكاة مثلا في بلد ما، كم دولار، أو قيمته، فهو يحول المبلغ عن طريق حسابه البنكي في الموبايل، أو عن طريق الحساب البنكي نفسه، وهو هنا لا يحول أرزا ولا شعيرا، ولا تمرا، بل يحول مالا، فهل سيرسل رسالة (إس إم إس) للفقير ليقول له: هذه زكاة فطر، لا بد أن تشتري بها طعاما؟ وهل لو أخذها الفقير ليتناول حبوب الدواء بدلا من حبوب الغذاء هل يكون قد أكل حراما؟!
يجوز إخراج زكاة الفطر نقد، ويجوز إخراجها حبوبا، المهم في ذلك المتيسر على المزكي، والأنفع للفقير، وليست المشكلة في الرأي العلمي هذا أو ذاك، المشكلة في قليلي الفقه ممن يضيقون على الناس فيما وسع الشرع فيه عليهم،
وقد كان من قبل يحدث في بعض دول الخليج، وبعض الدول العربية أن تخرج فتاوى تشدد على الناس في قضية زكاة الفطر، وأنه يجب أن تخرج حبوبا فقط، فكان المزكي يتحرج من أن يخرجها مالا، فيذهب إلى تاجر الأطعمة، يشتري منه علبة زكاة الفطر، أو حقيبة زكاة الفطر، مثلا بعشرين، ويعطيها للفقير، والفقير لا يحتاج إلى كل هذا الكم من الطعام الذي أتاه كزكاة، فيضطر إلى بيع معظمه، فيذهب للتاجر الذي اشترى منه المزكي الحقيبة بعشرين، فيعرض عليه الشراء، والتاجر يعرض عليه أن يبيعها بخمسة عشر، إن قبل، وإلا رفض، فيضطر الفقير الذي أخذ الزكاة لبيعها بخمسة عشر، وتظل الحقيبة تذهب للتاجر، ليشتريها مزكي، ويبيعها الفقير، وهكذا تدور، والخاسر ماليا في المسألة هنا، هو الفقير، والرابح الوحيد ماليا هنا هو التاجر، للأسف، في مشهد لا يمكن أن نطلق عليه أنه التنفيذ الحقيقي للسنة، والتي شرعت زكاة الفطر، لمصلحة الفقير، وإغنائه.
هل هؤلاء يخالفون السنة؟!
أما العجب العجاب، فهو قول بعض الجهلة عمن أفتوا بجواز إخراج زكاة الفطر قيمة، بأنهم يخالفون السنة، وكيف يخالف السنة كل هؤلاء الأعلام، وعلى رأسهم خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز، وإذا خالف عمر السنة، فمن يتمسك بها؟ هل يفهمها ويتمسك بها هؤلاء الأغرار؟! والحسن البصري، شيخ الزهاد، الفقيه العالم الكبير.
وأبو حنيفة الإمام الكبير، المعروف بورعه وعلمه وفقهه وذكائه. ومن المعاصرين: محمد أبو زهرة، عملاق الفقه والسنة بحق، الذي كتب كتبا عن الأئمة تعجز مراكز بحثية عن كتابتها الآن، بهذا التفرد والعمق، والإنصاف. ويوسف القرضاوي، الذي كتب مجلدين كبيرين عن (فقه الزكاة)، ظل سنوات طوالا يدرس الموضوع، ويؤصل له، حتى قال عنه أحد العلماء: إنه جهد تنوء بعمله المجامع الفقهية، وقال آخر: لم يكتب في الإسلام مثله عن الزكاة.
خلاصة الأمر: أن زكاة الفطر، يجوز إخراجها حبوبا، ويجوز إخراجها قيمة مالية، المهم في ذلك المتيسر على المزكي، والأنفع للفقير، وليست المشكلة في الرأي العلمي هذا أو ذاك، المشكلة في قليلي الفقه ممن يضيقون على الناس فيما وسع الشرع فيه عليهم، وادعاء امتلاك الحقيقة، وأن الشرع له باب واحد، لا يدخله أحد إلا عن طريقهم، وبفتاواهم فقط، وهو ما يضع المسلمين في حرج، ويضع صورة الإسلام في موقف أشد حرجا.
Essamt74@hotmail.com
مسيرة بالمركبات في شيكاغو للمطالبة بحظر الأسلحة لدولة الاحتلال (شاهد)