في مشهد روائي عظيم يصف غابريال قارسيا ماركيز؛ المحرر سيمون بوليفار في ردهة من ردهات حرب التحرير من الاستعمار الإسباني وقد خانه أغلب جنرالاته وارتدوا عن حرب التحرير مستقلين كل بولايته، وقد غرق بحصانه في مستنقع وبيل مع قلة باقية من جنده. يقف على ظهر الحصان ويعلن بصوت واثق أن الحرب لن تتوقف حتى يحرر كل أمريكا اللاتينية ويطرد المحتل الإسباني. ويخرج بصعوبة من المستنقع ويواصل حربه في كرة ثانية وينتصر ويحوز لقب المحرر عن جدارة لم ينتقصها أحد من بعده ولا حاز مجد التحرير مثله. هذا المحرر لم يركب حصانه في
تونس ولم يعلن حربا ثانية، فالحرب الغريزية ضد الإسلاميين تهلك الحرث والنسل وتدفع البلد إلى مستنقع بلا قاع، ولا محرر في الأفق.
في ليلة النصف من رمضان يتفاخر التونسيون بطبخ وجبة الكسكسي التي صارت واجبا دينيا، رغم أن عرب الجزيرة ومنهم النبي وصحابته لم يكونوا من أكلة القمح ولا عرفوا الرحى والغربال، ولا عرفوا المحراث والنورج. تصلنا أخبار الإعدامات الجماعية من مصر ونقرأ لمكونات سياسية تونسية دعوتها الملحة للرئيس بتحريك الجيش ضد الحكومة وحسم الأزمة السياسية عسكريا، أسوة بنظام السيسي الانقلابي الذي يستمتع
بإعدام الناس في رمضان.
فشل حكومة المشيشي في القيادة
البحث عن الحد الأدنى لم يعد كافيا لتبرير عجز الحكومة عن إخراج البلد من الأزمة التي تردى فيها. من السهل الإلحاج على ذريعة أن الرئيس يعطل الحكومة ويمنعها من العمل، وهي حجة واقعية لا ننقضها، ولكن مقابل هذا التعطيل كان يجب إبراز خاصيات الزعامة وإثبات الكفاءة القيادية على طريقة المحرر الذي لم يرهب المستنقع ولا الخيانات الداخلية من جنرالاته المستعجلين على المغنم.
التصدي للشأن العام يفترض وجود هذه الكفاءة وبعد النظر والشجاعة الأدبية، لكن الحكومة تغرق وتُغرق البلد، ومن سوء تقديرها للوضع أن تأمل عطف الرئيس وحزامه الاستئصالي ويتراجع عن التعطيل. الوضع يقتضي تجاوز قوة التعطيل والشروع في مغامرة سياسية؛ لعل السفر إلى طرابلس برغم رفض الرئيس غير المعلن أحد مفاتيحها. ولا نرى المشيشي يملك هذه القوة الأدبية، لذلك يتوسل مؤسسات الإقراض الدولية التي تتلدد وتفرض شروطها على بلد يقف على حافة الإفلاس.
لقد رفض البنك الدولي مد يد المساعدة في انتظار إعلان الإفلاس وإرسال الكومسيون المالي على طريقة الفرنسيين في نهاية القرن التاسع عشر، وهو الكومسيون الذي شرع للحماية بدعوى استعادة الديون فتحول إلى احتلال غاشم. وفشل رئيس الحكومة متولد عن فشل البرلمان والحزام السياسي للحكومة الذي يناور لإبقاء الحد الأدنى السياسي قائما بزعم الخوف من تعميق الأزمة، وكأن الأزمة ليست بصدد الاستفحال بالتعطيل الرئاسي. تردد البرلمان (حيث حزام الحكومة) يجعل الحكومة مترددة، والمحرر لا يأتي ولو كحلم روائي. إنا لا نرى المحرر في الأفق.
الوضع يستدعي مخلصا من خارج الحدود
لا نرغب في التسليم بهذه الحقيقة فهي تؤلمنا في السويداء، فالخصومة الداخلية لا تنبئ بخير، والحرب قائمة وإن لم يسل الدم بعد وقد لا يسيل حقيقة، ولكن مستويات الفقر التي تتضح تعادل في قوتها وألمها حربا أهلية. وتزدهر الآن تحليلات هي أقرب إلى الأماني (ونحن نساهم فيها من قهر لا من رغبة) أن صراع القوى العظمى على إعادة توزيع النفوذ في البحر المتوسط سيأتي بحل لتونس، وسيعطف عليها بعض أصدقائها فيخرجونها من أزمتها، وفي خيالنا الساذج أن ذلك يكون بلا مقابل سياسي واقتصادي على الأجيال القادمة.
نعم يوجد في تونس من يود ذلك ويعمل عليه ليلا ونهارا، فالأوليات مضطربة. ومقابل أن يسقط المسار الانتقالي ويأخذ معه الإسلام السياسي (ممثلا في حزب
النهضة وتوابعه). لا بأس أن يصل البلد إلى الإفلاس وتتدخل القوى الخارجية للسيطرة على مستقبل البلد والأجيال، فمثل هذا التدخل سيكون عند الراغبين فيه مقبولا جدا ما دام المسار القائم يسمح بديمقراطية فيها إسلاميون. أي أن المطلوب
إعدام الديمقراطية لإعدام الإسلاميين سياسيا وربما أمنيا (على طريقة ابن علي).
السيسي عند هؤلاء نموذج مغر للاتباع، ولا ضير أن يُعدم الإخوان في رمضان، فهم إخوان وحقوق الإنسان لا تشملهم.
هل يأتي المخلص من خارج الحدود؟ كل المؤشرات تفتح هذا الباب، فأهل البلد لا يتفقون على مستقبله ولا يحسنون إدارة حاضره المأزوم، ولم يبق إلا أن يخاف الجوار من فوضى تونسية فيستبقون بفرض قيود على المختلفين فيلزمونهم بالعمل المشترك ثم يطلبون الثمن.
لا شيء ينبئ عن وجود عقل سياسي يفكر في المستقبل، رغم أن وباء كورونا يحصد الأرواح حصدا وكأن الموتى في قارة أخرى نحسبهم ولا نشعر بالألم. الحكومة لا تبادر فتستبق، ويظهر ارتباكها في كل قرار، وحزامها البرلماني يلقي إليها بالمسؤولية، والنخب المستقلة تتفاصح في
تفسير الدستور (حيث جرهم الرئيس) وتمتعوا بخبرتهم في الأمر، والاستئصاليون يرابطون على موقف واحد لا يغيرونه "تونس بلا خوانجية ولو حمل الطوفان الشعب والوطن".
المخلص/ المحرر لن يأتي إلا ليأخذ روح البلد ويحوله إلى حديقة خلفية لمشاريعه، فهو يحتاج إلى شكل حكومة تدخله من الباب ليسكن البيت ويحول أهله عبيدا. ولن يبقى لنا إلا سؤال روائي: لماذا لا تنتج تونس محررها الذي يرى العدو ويسميه باسمه فيقود معركة تحرير؟
يمكننا الذهاب في التاريخ فلن نجد هذ المحرر، لقد تغير هذا البلد دوما بفعل قوة خارجية وكل اسم لمع فيه وأثر جاء من خارجه، من حنبعل برقة إلى سنان باشا التركي، ولكن لنا نماذج كثيرة، مثل أبي الحسن الحفصي الذي استعان بعدوه (شال الخامس أو شارل كنت) ليحكم رقاب شعبه. وإنه ليؤلمنا أشد الألم أن نلوذ بالدعاء المقهور كحل أخير لحلحلة الأوضاع الدنيوية التي صنعناها بأيدينا. فاللهم في ليلة النصف من رمضان امنحنا عفوك لنروي لك كل شيء.