بلهجة تصعيدية حادة ومتوترة، تحدّث الرئيس التونسي قيس سعيّد إلى قوات الأمن الداخلي في عيدها الخامس والستين، ما أثار جدلا كبيرا، لا سيما حين تحدث عن تبعية القوات الأمنية له، على غرار العسكرية.
وقال سعيّد: "أنا القائد الأعلى للقوات المسلحة العسكرية والأمنية".
ومن المعروف أن القوات الأمنية تتبع رئاسة الحكومة وفق الصلاحيات المنصوص عليها بالدستور، فيما تتبع القوات المسلحة إلى الرئيس الذي يعد القائد الأعلى لها.
وأثارت تصريحات سعيّد مخاوف كبيرة ورفضا واسعا من قبل الرأي العام التونسي على اختلاف توجهاته، إذ بدأت التحذيرات من "انقلاب واضح على الدستور".
ورأى العديد من المتابعين أن خطاب سعيد الأحد، جاء بمنزلة قراءة " البيان رقم 1"، حيث خرج في صورة المنقلب الذي يكرس الحكم الفردي والمحتكر للسلطة، بحسب وصفهم.
فيما أجمع الكثير من خبراء القانون على أن الرئيس قيس سعيد نصّب نفسه بشكل واضح مكان المحكمة الدستورية، بحسب قولهم.
.
قراءات فردية
قال رئيس الحكومة هشام المشيشي في أول تعليق رسمي له على ما أثاره رئيس الجمهورية في خطابه؛ إنه " كلام خارج السياق، لا موجب للدخول في القراءات الفردانية والشاذة للنص الدستوري".
وشدد المشيشي في تصريح صحفي، أن تصريحات سعيد تذكرنا بالأولوية القصوى لتركيز المحكمة الدستورية، وهي الهيكل الوحيد للبت في هذه المسائل".
واعتبر المشيشي أن البلاد في حاجة لخطاب يجمع التونسيين ويمنحهم الثقة في هذا الظرف الصعب، ولا وقت لنا لهذه التحليلات التي ليست في وقتها".
فيما وصف المقرر العام للدستور الحبيب خضر خطاب الرئيس، "بالمنطق الغريب والخرق الجديد للدستور" .
اقرأ أيضا: حديث سعيّد عن تبعية القوات الأمنية له يثير مخاوف من "انقلاب"
احتكار التأويل
الباحث في القانون الخاص كريم المرزوقي في تصريح خاص لـ" عربي21"، انتقد بشدة تأويلات سعيد قائلا: "استغل رئيس الجمهورية مناسبة الاحتفال بعيد قوات الأمن الداخلي وبحضور رئيسي الحكومة والبرلمان، ليواصل إثارة قراءات للدستور باتجاه تدعيم صلاحياته ومجال نفوذه. اعتبار نفسه القائد الأعلى للقوات المسلحة بما يشمل الجيش والأمن الداخلي، أو كما سماها القوات المسلحة العسكرية والمدنية، هو تأويل مجانب للصواب لعدة حجج من داخل نص الدستور".
وتابع مفسرا الحجج: "أهمها الفصل 17 الذي فصل بين القوات المسلحة وقوات الأمن الداخلي، عدا فلسفة توزيع السلطات والصلاحيات بين رأسي السلطة التنفيذية، هي مسألة حسمتها نقاشات الدستور، وثم لاحقا مع إصدار قانون التعيينات في الوظائف العليا للدولة عام 2015".
وأضاف: "لكن إثارتها مجددا تأتي في سياق سعي سعيد لتوسيع مربعات نفوذه بقراءات متعسفة للدستور، وفي غياب محكمة دستورية، التي أعلن الرئيس نفسه مؤخرا رفضه لإرسائها بقراءة أقلية لمسألة الآجال، والخشية أن تكون هذه القراءات الخلافية هي مقدمة لخطوات أخرى".
من جهته، يقول الباحث في القانون الدستوري وعضو الجمعية العربية للعلوم السياسية والقانونية رابح الخرايفي في تصريح خاص لـ"عربي21"؛ إن "الحقيقة هو أن خطاب رئيس الجمهورية اليوم حمال أوجه عديدة، وخطاب ليس مرتجلا ككل الخطابات التي سبقته".
وتابع: "خطاب مكتوب مركز يريد إبلاغ رسائل سياسية وقانونية دستورية".
وعن الجانب الدستوري، يوضح الباحث أن خطاب "سعيد أمام كل التشكيلات الأمنية وبحضور رئيس الحكومة، ورئيس مجلس نواب الشعب، وفي ذلك تعمد مخاطبتهم بلغة ومنهجية المدرس، الخطاب بمنزلة إعلام لهم صراحة بتفسيره للفظ القوات المسلحة التي وردت بالفصل 17 من الدستور، وهو قائدها وفق الفصل 77 من ذات الدستور".
وعن مدى صحة تفسير الرئيس يرد الخرايفي: " هذا تفسير صائب؛ لأن الدستور لم يتحدث عن قوات عسكرية أو جيش، بل تحدث عن قوات مسلحة وهي لفظ شامل لم تكن صياغته للتفريد، واللفظ العام في القانون يجري على عموميته وفق ما جاء في قواعد التفسير في الفصل 533 من مجلة التزامات وعقود".
وحذر من أنه "من الناحية السياسية الخطاب سيفتح واجهة جديدة للصراع ستشتت مجهود الدولة، المشتت أصلا على مجابهة الوباء وتعبئة الموارد المالية وتسديد الديون الخارجية، نحن في غنى عنها" .
"الحاكم بأمره"
من جانبه قال أستاذ القانون الدستوري عبد الرزاق مختار في قراءة قانونية؛ إن "الخطاب في حد ذاته مليء بالإيحاءات السياسية، لم يكن خطابا كما كان معهودا في مثل هذه المناسبات، الخطاب فيه نوع من التجييش إذ لا يمكن أن يكون خطاب كهذا في مناسبة كهذه".
وعما أثاره الرئيس قيس سعيد، أوضح أستاذ القانون الدستوري في حديث لـ"عربي21": "هناك خلاف واضح وتنازع اختصاص دستوري في مسألة التعيينات وفق النص لسنة 2015، الذي يعتبره غير دستوري، والحال أنه ليس له التقدير الدستوري من عدمه، ولا تغليب نص على نص وهذا خطير جدا. الرئيس يطرح نفسه اليوم مؤولا ورقيبا على الدستور، ويعتبر هذا نصا يطبق وهذا لا يطبق، وهي في الأصل مهام المحكمة الدستورية والقضاء، وليس مهام الرئيس".
وعن حديث الرئيس عن تبعية القوات الأمنية له، أشار الباحث إلى أن "هو لا يريد هذه المسألة "لوجه الله"، بل للوصول إلى النص المتعلق بالتعيينات إذا تحول من مؤول إلى قاض دستوري، يحكم بأن نصّا يطبق وآخر لا، وهذا مشكل كبير".
وقال مختار: "الأخطر هو اعتبار أن تأويله هو السليم. رأينا رئيس جمهورية يهدد ويكشف عن وجه جديد، وهو خطير جدا". وعن اعتبار ذلك انقلابا على الدستور يرد الباحث: "نحن نمضي قدما نحو خروقات منهجية للدستور تقودنا إلى انسداد دستوري غير مسبوق، فالهدف هو بلوغ الانسداد إلى حين الوصول إلى وضع لا يمكن فيه تحكيم الدستور".
وعن مفهوم القوات المسلحة في الدستور، وإن كانت تعني (جيش، ديوانة، أمن)، أوضح مختار أن "عبارة المسلحة تمضي أصلا إلى القوات العسكرية؛ لم نر يوما أن عبارة قائد القوات المسلحة تعني قائد القوات العسكرية والأمنية المسلحة. هو يريد أن يجرنا إلى نقاش هو حسم فيه أمره، وهو أصبح يعتبر نفسه قاضيا دستوريا يحل محل المحكمة الدستورية".
زيارة سعيّد لمصر تثير غضبا.. والسيسي يتحدث عن "تقارب"
هشام المشيشي: الحكومة باقية وستواصل مهامها
داخلية تونس: مقتل 3 مسلحين ورضيعة في عمليتين أمنيتين