على الرغم من أن الإسلاميين في السودان قد حكموا السودان نحو ثلاثة عقود كاملة، إلا أن تجربتهم كانت في أغلبها تعكس طبيعة المواجهة مع النظام الدولي، الذي تحفظ ولا يزال يتحفظ على إشراك الإسلام السياسي في الحكم.
أما الآن وقد انتهت تجربة الإسلاميين في السودان، فإن ذلك يسمح بإعادة قراءة التجربة وتأملها، وليس هنالك طريقة أكثر قربا من من معرفة أسرار واتجاهات الحركة الإسلامية السودانية وأكثر صدقا من قراءة تجارب وأطروحات قياداتها.. وهذا ما فعله القيادي فيها الدكتور أمين حسن عمر، بسلسلة مقالات يسجل فيها سيرة قيادة الحركة الإسلامية في السودان، تنشرها "عربي21" بالتزامن مع نشرها على صفحته الخاصة على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" في سياق تعميق النقاش، ليس فقط حول تجارب الإسلاميين في الحكم، وإنما أيضا في البحث عن علاقة الدين بالدولة.
رموز التنوير
الحركة الإسلامية في السودان التي باتت تسعى جماعات محلية وقوى إقليمية ودولية لشيطنتها ومحاولة بناء حواجز فاصلة بينها وبين أجيال صاعدة لم تشهد بزوغ فجر الحركة ولم تعرف تاريخها ولم تتعرف على إنجازاتها ولا وقع آثارها في المجتمع والدولة، ولا هي اطلعت على تضحيات جهادها عبر الحقب، وربما لم تقرأ صحائف فكرها ولم تعرف وقائع دعوتها في مجتمع كان مقسما بين نخبة متغربة ومجاميع أهلية مقلدة، فكان المجتمع بين تغريبتين واحدة في المكان والثانية في الزمان، حتى طلعت الحركة الإسلامية الحديثة بمصابيح تنويرها ورموز نهضتها على الناس، فبدلت بإذن الله أحوالا كثيرة وارتقت مراقي عسيرة في دروب التغيير والتطوير. وفي هذه الحلقات سوف أتجشم محاولة التعريف ببعض رموز التنوير الإسلامي..
من مؤسسي الحركة الإسلامية
كان الأستاذ محمد يوسف محمد، ثاني اثنين أسسا الحركة الإسلامية في جامعة الخرطوم عام 1949.. والأول وقد ذكرناه آنفا وهو الأستاذ بابكر كرار. والأستاذ محمد يوسف يحكي عن تأسيس الحركة تحت مسمى حركة التحرير الإسلامي، فيقول: "كانت الفكرة الأولى في حنتوب وقد أوحى بها لهما دكتور الصائم محمد إبراهيم فقررا التعرف على التنظيمات في المدرسة، وكان أول التنظيمات الجبهة المعادية للاستعمار واجهة الحزب الشيوعي، لكنه يقول إن طرحها اللاديني لم يعجبهما بعد حضور محاضرات عديدة بالمدرسة ثم لما جاؤوا للجامعة كانت سلوكيات الطلاب الشيوعيين دافعا لهم لإنشاء جبهة معادية للاستعمار لا تعادي الدين.
لكن عندما شعر الشيوعيون أن هناك تحركا جديدا وسط الطلاب، فقد سارع الشيوعيون إلى شن حملة إعلامية ضد هذا التنظيم ونشروا في جرائد الحائط في الجامعة مقالات طويلة تحذر الطلبة من هذا التحرك الجديد.
وأطلقوا عليه "حركة الإخوان المسلمين"، وكانت آنذاك حركة الإخوان في مصر تواجه هجمة شرسة وقد حلت الجماعة واغتيل مرشدها الإمام حسن البنا ووصفت بالتخلف والإرهاب، فكان من الصعب عليهما مهاجمة الإخوان لكنهما لم يرغبا في أن تنسب الحركة إلى الإخوان المسلمين.. ورغم نفيهما لأي علاقة بالإخوان ورغم أن البيان الخاص بإنشاء التنظيم يوضح عدم العلاقة بأي تنظيم خارج السودان فإن الحملة الشيوعية استمرت على حركة يرونها خطرا قد يسحب البساط من تحت أرجلهم.
وفي أول مؤتمر للحركة انفصل بابكر كرار من الحركة وأنشأ الجماعة الإسلامية لكي ينأى بحركته عن الإخوان الذين كان يراهم حركة يمينية محافظة، وأصبح محمد يوسف هو أقدم الأعضاء وأبرزهم مع حسن الترابي والرشيد الطاهر ويوسف حسن سعيد والطيب صالح وميرغني النصري وآخرين.
رجل قانون
وقد ولد الأستاذ محمد يوسف في ﻤﻨﻄﻘﺔ ﺍﻟﺒﺎﻭﻗﺔ ﺑﻘﺮﻳﺔ ﺍﻟﺠﻮﻝ ﻋﺎﻡ 1932. وﺩﺭﺱ ﺍﻟمرﺣلة ﺍﻷﻭﻟﻴﺔ ﺑﻤﺪﻧﻲ ﻭاﻟﺘﺤﻖ ﺑﺎﻟﻤﺪﺍﺭﺱ ﺍﻟﻮﺳﻄﻰ ﻟﻴﻜﻤﻠﻬﺎ ﺑﺄﻡ ﺩﺭﻣﺎﻥ ﻭﻳﻤﺘﺤﻦ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺜﺎﻧﻮية ﻣﻦ ﺍﻟﺴﻨﺔ ﺍﻟﺜﺎﻟﺜﺔ ﺛﻢ اﻟﺘﺤﻖ بمدﺭسة ﺣﻨﺘﻮﺏ ﻓﻲ ﻣﻨﺘﺼﻒ ﺍﻷﺭﺑﻌﻴﻨﻴﺎﺕ. ثم اﻟﺘﺤﻖ ﺑﺠﺎﻣﻌﺔ ﺍﻟﺨﺮﻃﻮﻡ 1949 (ﻛﻠﻴﺔ ﺍﻟﺨﺮﻃﻮﻡ ﺍﻟﺠﺎﻣﻌﻴﺔ) وﺗﺨﺮﺝ ﻣﻨﻬﺎ ﻓﻲ آذار (ﻣﺎﺭﺱ) 1955.
في أول مؤتمر للحركة انفصل بابكر كرار من الحركة وأنشأ الجماعة الإسلامية لكي ينأى بحركته عن الأخوان الذين كان يراهم حركة يمينية محافظة وأصبح محمد يوسف هو أقدم الأعضاء وأبرزهم مع حسن الترابي والرشيد الطاهر ويوسف حسن سعيد والطيب صالح وميرغني النصري وآخرين.
وﻋﻤﻞ ﺑﻌﺪ ﺗﺨﺮﺟﻪ ﻓﻲ ﻛﻠﻴﺔ ﺍﻟﻘﺎﻧﻮﻥ بﺟﺎﻣﻌﺔ ﺍﻟﺨﺮﻃﻮﻡ ﻓﻲ ﻣﺠﺎﻝ ﺍﻟﻘﻀﺎﺀ، ﺛﻢ من بعد ذلك في ﺍﻟﻤﺤﺎﻣﺎﺓ وﻧﻘﻞ في أول عمله قاضيا ﺇﻟﻰ ﺍﻷﺑﻴﺾ، ﻭﻷﻧﻪ ﻛﺎﻥ ذا ارتباط بقضية التحرر من الاستعمار وﺑﺎﻟﻨﺸﺎﻁ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻲ، فقد قرر الاﺳﺘﻘﺎلة من القضاء ليتجه ﺇﻟﻰ ﻣﻬﻨﺔ ﺍﻟﻤﺤﺎﻣﺎﺓ وتدرب أولا في مكتب الراﺣﻞ ﺃﺣﻤﺪ ﺍﻟﻌﺘﺒﺎﻧﻲ المحامي ثم صار شريكا له من بعد. وقد انتخب عضوا بالجمعية التأسيسية البرلمان في الفترة 1965- 1968 عن مقاعد الخريجين وﺗﻮﻟى من بعد ذلك ﺍﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻨﺎﺻﺐ ﻣﻦ ﺑﻴﻨﻬﺎ ﺭﺋﻴﺲ ﺍﻟﺠﻤﻌﻴﺔ ﺍﻟﺘﺄﺳﻴﺴﻴﺔ ﺧﻼﻝ ﺍﻟﻔﺘﺮﺓ ﻣن 1986ﻡ إلى 1989ﻡ وتولى رئاسة البرلمان في 1988 حتى 1989.
كان الأستاذ محمد يوسف رقما ذا اعتبار في كل مجال نشطت فيه الحركة الإسلامية فهو من المؤسسين لمنظمة ﺍﻟﺪﻋﻮﺓ ﺍﻹﺳﻼﻣﻴﺔ عند ﻗﻴﺎﻣﻬﺎ ﻓﻲ 1980ﻡ، ﻭمن المؤسسين للمركز الإسلامي الأفريقي ثم ﺟﺎﻣﻌﺔ ﺃﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ﺍﻟﻌﺎﻟﻤﻴﺔ، وممن أسسوا ﺑﻨﻚ ﻓﻴﺼﻞ ﺍﻹﺳﻼﻣﻲ ﻭكان من ﺍﻟﻤﺴﺎﻫﻤﻴﻦ ﻓﻴﻪ ﻭﺍﻟﻤﺸﺎﺭﻛﻴﻦ ﻓﻲ ﺇﺩﺍﺭﺗﻪ ﺍﻟﻘﺎﻧﻮﻧﻴﺔ، ومن المؤسسين لشرﻛﺔ ﺍﻟﺘأﻣﻴﻦ ﺍﻹﺳﻼﻣﻴﺔ أول شركة تأمين إسلامي في العالم وﻛﺎﻥ ﻣﺴﺎﻫﻤﺎً ﻓﻴﻬﺎ، ﻭﺭﺋﻴﺴﺎً ﻟﻤﺠﻠﺲ ﺇﺩﺍﺭﺗﻬﺎ ﻭﻣﺴﺘﺸﺎﺭﺍً ﻗﺎﻧﻮﻧﻴﺎً ﻟﻬﺎ، ﻭكذلك كان من المؤسسين لجمعية ﺍﻟﻬﻼﻝ ﺍﻷﺣﻤﺮ ﺍﻟﺴﻮﺩﺍﻧﻲ ﺍﻟﺘﻲ ﻛﺎﻥ ﻋﻀﻮﺍً ﻓﻲ ﻟﺠﻨﺘﻬﺎ ﺍﻟﺘﻨﻔﻴﺬﻳﺔ ﺛﻢ ﺭﺋﻴﺴﺎً ﻟﻬﺎ فيما بعد.
وقد ﻓﺘﺢ ﺍﻟﺮﺍﺣﻞ ﻣﺤﻤﺪ ﻳﻮﺳﻒ ﺑﻴﺘﻪ لإخوانه ﻛﺎﻓﺔ في كل ﺟﻤﻌﺔ فكان منزله محفلا منتظما يرﺗﺎﺩﻩ ﺑﺼﻮﺭﺓ ﻣﻨﺘﻈﻤﺔ مجموعات ﻣﻦ ﻗﻴﺎﺩﺍﺕ ﺍﻟﺤﺮﻛﺔ وشبابها.
وقد ﻇﻞ الأستاذ الراحل كذلك يفتح مكتبه لشباب الحركة فتدرب في مكتبه عدد كبير من المحامين صار بعضهم شركاء له من بعد ومنهم الأستاذ علي عثمان محمد طه النائب الأول الأسبق لرئيس الجمهورية والأستاذ الراحل فتحي خليل نقيب المحامين لدورات عديدة ووالي الولاية الشمالية حتى وفاته، وظل الأستاذ محمد يوسف في دائرة الفعل النشط ﻓﻲ ﺍﻟﺤﺮﻛﺔ ﺍﻹﺳﻼﻣﻴﺔ حتى وفاته في تشرين الثاني (نوفمبر) 2010 ﻡ ﻓﻲ ﺇﻳﺮﻟﻨﺪا، حيث ذهب للعلاج.
وقد كان الأستاذ محمد يوسف، طوال حياته عنصر تلاق وتصاف في الحركة الإسلامية التي اعتبرها ابنه الأول قبل إنجاب الأبناء، وكان يختار الأيسر من الأمور والأوفق منها دائما وظل محبا لإخوانه منافحا عنهم في كل موقف.. ورغم أنه عاش عشرين عاما في سلطة الإنقاذ فقد نأى بنفسه عن المواقع السياسية والمناصب الحكومية واكتفى بدور المستشار الموقر والناصح الأمين.
رحم الله الأستاذ محمد يوسف فهو أحد اثنين وضعا حجر الأساس لبناء إسلامي متين تطاول بين البنى الاجتماعية والسياسية وحجز له مكانا بارزا في تاريخ السودان، مكانا لا يماري فيه إلا مكابر حقود لدود.
أمين حسن عمر: بابكر كرار تأثر بالإخوان لكنه اختار طريقا آخر
أمين حسن عمر: الترابي رائد التنوير الإسلامي في السودان (2من2)
محمد يتيم: هذه جذور إسلاميي المغرب التاريخية والسياسية