زيارة مليئة بالمودة والم
جاملات أداها الرئيس
التونسي لمصر بدعوة من "شقيقه الرئيس
المصري"، وسال حبر كثير حول الزيارة ودوافعها ونتائجها. وعبّر تونسيون كثر عن خيبتهم من زيارة
رئيس منتخب ديمقراطيا ووصل السلطة بالآلية الديمقراطية؛ إلى عسكري انقلب على الديمقراطية وأفحش في أرواح الناس وحطم شعبا حرا وثائرا، وكسر أمله في التقدم على طريق الديمقراطية. كان هناك سعداء بالزيارة، لا لنتائج حقيقية منتظرة منها على المستوى الاقتصادي، بل لأن في لقاء الرجلين احتمال أن تتواصل حرب
الاستئصال السياسي للإخوان المسلمين في طول الخريطة العربية.
لن نتابع هذا الجانب من الزيارة، سنحاول التركيز على إمكانيات التعاون السياسي في أزمة مصر المائية، وهو العنوان الذي تكلم فيه الرئيسان وأعرب فيه التونسي عن التزامه المبدئي بأمن مصر المائي. فماذا يملك التونسي أن يقدم للمصري في أزمة لم يعالجها المصري وتركها تتعفن حتى وصل بلده إلى حافة العطش؟
أمن مصر المائي جريمة السيسي
منذ أعلنت إثيوبيا شروعها في بناء سد النهضة دون الرجوع إلى شركائها في مياه نهر النيل (مصر والسودان)، كما جرت به الأعراف والاتفاقيات الدولية بين الدول التي تشترك في مجاري المياه الكبرى لاحت أزمة وجود بالنسبة لمصر. وعندما كانت إثيوبيا تتقدم في أشغال البناء حدث الانقلاب المصري على الديمقراطية وانشغل السيسي بترسيخ سلطانه، مغفلا التحرك بجدية لحل الأزمة قبل استفحالها وتغيير المعطيات على الأرض. ثم أمضى اتفاق مبادئ يسمح لبلد المنبع بالتحكم الكامل في دفق المياه، وفي كل جولات التفاوض كانت الابتسامات تتغلب على الخلافات وتخرج إثيوبيا رابحة، وتشح مياه بلد المصب.
لم يبدر من الرئيس المصري أية نية في تحريك قوته العسكرية لفض النزاع، أو حتى لمجرد التهديد بالقوة لإعادة التفاوض حول القسمة العادلة للمياه. وزاد اضطراب وضع السودان السياسي في العامين 2019 و 2020 في تفكك الموقف المصري السوداني بصفتيهما بلدان مصب. من الواضح أن استعمال القوة لم يكن على جدول أعمال العسكري المصري المشغول بمدينته الجديدة التي لم يسكنها أحد.
وعندما أعلنت إثيوبيا قرب اكتمال الأشغال والشروع في المرحلة الثانية من ملء السد؛ أعاد السيسي اكتشاف الخطر وبدأ يحشد لموقف دولي تفاوضي لا يلمح مجرد التلميح باستعمال قوته لدفاع عن حقه. ويبدو أن دعوة الرئيس التونسي تأتي في هذا السياق التحشيدي بعد أن "وقعت الفأس في الرأس"، ودخلت مصر مرحلة العطش.
فماذا يملك الرئيس التونسي ليقدمه في مساعدة مصر العطشى؟
الأعجز ينجد العاجز بكلام فضفاض
إذا كانت مصر لا تفكر مجرد التفكير في استعمال القوة العسكرية للدفاع عن حقها وتكتفي بالتفاوض من موقع الخاسر قبل الحرب، فإن الرئيس التونسي لا يمكنه إعلان الحرب عوضا عن البلد المعني بها. وإذ يستبعد احتمال القوة، فإن المتبقي للبلدين هو المناورة في المنظمات الدولية التي تتابع من موقع المتفرج وتعتبر الأزمة محلية لا تستحق التدخل الدولي.
أهم المنظمات الدولية التي يمكن أن تتدخل في النزاع هي اتحاد الدول الأفريقية (بصفته يقوم بدور تحكيمي في نزاعات الدول الأعضاء)، ولا يملك قوة عسكرية فعّالة لفض النزاعات بالقوة، انتهى دوره منذ البداية عندما لم يحركه بلدا المصب (مصر والسودان) بقوة ورضيا منه بدور وساطة ودية لم تؤد إلى تراجع إثيوبيا عن التقدم في البناء والتعبئة، وتحركت دوما بقوة صاحب الحق المطلق دون أن تولي اهتماما لأي وسيط، ولذلك فإن هذه المنظمة عاجزة الآن عن التدخل.
وعلى فرض أن يستصدر منها قرار إدانة لبلد المنبع، فإن المنظمة الفاقدة لقوة تدخل لن تتجاوز توجيه النصح بحل النزاع سلميا، وهذه الحلول لا تؤتي نتيجة. وفي هذه الفرضية لو صوتت تونس مع مصر فإن التصويت لن يتجاوز كواليس المنظمة التي لإثيوبيا فيها دور وثقل تاريخي. هنا تصير المساندة التونسية لغوا غير ذي أهمية، بل يتحول إلى سبب للسخرية من الرئيسين في البلدين. فالشجاعة بعد انتهاء المعركة دليل عجز لا دليل شجاعة أو تملك قوة.
ليس لتونس نفس الوزن في أفريقيا منذ الخمسينات، فبورقيبة لم يسلك مسلك عبد الناصر في تمتين علاقاته بالدول الأفريقية، وقد صدر دوما عن موقف عنصري تجاه الأفارقة السود، ورنا دوما إلى أوروبا مالكة مفاتيح التقدم والقوة. وقد ترسخ في تقاليد الديبلوماسية التونسية السهر على تناغم الموقف مع فرنسا في القضايا الأفريقية. وفرنسا التي تظهر ودا لحاكم مصر الحالي تظهر مثله لحاكم إثيوبيا، بل هي إحدى الدول التي تستثمر في السد الإثيوبي.
وإذا أخذنا بعين الاعتبار حالة المودة والتناغم الظاهرة في تقبيل الكتفين بين الرئيس التونسي والرئيس الفرنسي (في ليبيا خاصة وفي أفريقيا عامة)، فإن إعلان إسناد الموقف المصري في قضية الأمن المائي هو وقوف ضد الموقف الفرنسي، بما يجعله موقفا للاستهلاك الإعلامي ويفرغه من كل جدية وجدوى. ولا نخال المصري جاهلا بهذا، ولكنه عاجز يبحث عن قشة فوجد قشة الأعجز منه، فأظهر شجاعة مع بعد المعركة التي حسمها الإثيوبي الذي يملأ السد ويلوح بالقوة للدفاع عن منجزه.
ممولو السد هم مخربو الديمقراطية
سنحتاج كثيرا من الغفلة والغباء لنصدق أن السيسي جاد فعلا في الدفاع عن أمن مصر المائي، ذلك أن ممولي السد هم بالدرجة الأولى حلفاء نظامه منذ الانقلاب أي دولة إسرائيل ودولة الإمارات والمملكة السعودية والصين وفرنسا. وهذه الدول تشكل محورا سياسيا معاديا للديمقراطية في مصر وفي تونس. وكان الأولى بمن يدافع عن أمنه المائي أن يتجه إلى الدول الممولة ليطلب منها التوقف عن التمويل الجزيل للسد (الذي ينجز في وقت قياسي بالنظر إلى حجمه وكلفته)، لكن ما نعرفه يقينا أن هذه الدول تقدم التمويل للسد والإسناد السياسي دون مياه للسيسي، فهي تمسك نظامه أن يسقط ولكنها تقطع الماء عن شعبه.
كيف سيقوم نظام سياسي على شعب يموت عطشا في المدى القريب؟ كان مطلوبا من السيسي أن يقوم بمهمة واحدة توشك الآن على نهايتها؛ هي تخريب الديمقراطية في مصر. وقد أنجز المهمة بنجاح. فماذا بقي له؟ تسليم مصر عطشى إلى نظام بديل ليخوض حرب المياه طيلة نصف قرن قادم. وفي أجواء مماثلة لن يمكن لشعب عطش أن يطالب بالديمقراطية، فكل من سيحكمه سيقوده في حرب مياه مع لغو السيادة الوطنية، والأمن المائي جزء منها.
ماذا يفعل الرئيس التونسي في هذه المعركة وهو العاجز عن حل معضلات الحكم في بلده؟ لا شيء أبدا، حتى أنه يمكننا اختصار الخبر عن الزيارة في جملة واحدة: "لقد ذهب وعاد". يمكن العثور في الأثناء على معنى كامن في الزيارة، لقد انخرط
الرئيس المنتخب وهو يزور الرئيس المنقلب في المحور العربي الصهيوني المعادي للديمقراطية. لقد ذهب لإعلان ولائه الصريح لهذا المحور، وغفل بشكل مفضوح عن أن الصندوق الذي جاء به ما يزال على الطاولة، وأنه يمكنه إنهاء مدته الرئاسية كما جاء به وبنفس الآليات غير الانقلابية.
وإذا كان المواطن المصري سيخرج ضد العسكر يوما (نراه قريبا) بتأثير العطش القادم، فإن المواطن التونسي العطش بعد إلى الديمقراطية (والذي يعيش أزمة مياهه الخاصة دون النيل) لن يسمح لرئيسه بالانخراط في لعبة المحاور المعادية للديمقراطية. سنختصر بتوقع يقارب اليقين: زيارة الرئيس التونسي إلى مصر في ربيع 2021 فتحت طريق نهايته السياسية. لقد ارتكب الحماقة القاتلة، فالمنتخب لا يتوسل الشرعية من المنقلب وإنما من احترام شعبه، وهذا الرئيس توقف نهائيا عن احترام شعبه وتلك بداية النهاية.