الكتاب: "مدخل إلى الفلسفة السياسية"
الكاتب: أ.ر. موراي، ترجمة عمر فتحي
الناشر:دار تموز ـ ديموزي للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، الطبعة الأولى 2021،
(263 صفحة من القطع المتوسط)
شكلت دراسة تحرير الفلسفة السياسية من الارتباط باللاهوت، وكذلك السياق التاريخي الذي اتجه فيه الفكر نحو دراسة المعضلات السياسية في العهد الكلاسيكي على أساس عقلاني وعلماني تدريجي، لا على أساس ديني المكونات المعرفية للفلسفة الكلاسيكية العقلانية، منذ عصر النهضة، حيث أصبحت تشكل بين أيدي الفلاسفة والمفكرين السياسيين البرجوازيين سلاحاً فعالاً في محاربة الحكم المطلق، ومقاومة أسس ومبادئ النظام الإقطاعي الاستبدادي المتناقض جذرياً مع طبيعة الإنسان، في سبيل إرساء أسس ومبادئ النظام البرجوازي الجديد.
لا شك أن هناك مجموعة متنوعة من الأساليب التي يمكن تقديم الفلسفة السياسية بها لأولئك الذين يُفترض أنهم لم يقوموا بدراسة الفلسفة على الإطلاق، وقد يكون هناك اختلافات في الرأي حول أي من هذه الأساليب هو الأفضل.
ويقدم هذا الكتاب دراسة نقدية للنظريات الأساسية التي قدمها الفلاسفة السياسيون من أفلاطون إلى ماركس، مع إيلاء اهتمام خاص للقضايا المعاصرة. بيد أن القائمة المختارة لا تخلو من الاختزال، وقد تتغير تلك الاختيارات مع تغير المؤلفين. من المستحيل، بالطبع، تقديم مسح شامل لتاريخ الفكر السياسي في كتاب بسيط كهذا، وهناك بالفعل أعمال أكبر قامت بهذه المهمة، مثل كتاب "تاريخ النظرية السياسية" للبروفيسور سابين، الذي حقق بالفعل نجاحاً بارزاً.
في هذا الكتاب، الذي يحمل العنوان التالي: "مدخل إلى الفلسفة السياسية"، لمؤلفه البروفيسور البريطاني أ.ر. موراي أستاذ الفلسفة الاجتماعية في جامعة بيدفورد بلندن، والمتكون من مقدمة و15 فصلاً، وهو قائم على المحاضرات التي ألقاها الكاتب خلال السنوات السبع الماضية من تدريسه، ليس الهدف منه أن يكون تاريخاً للفلسفة السياسية أو الفكر السياسي في المقام الأول، بل أن يكون دراسة نقدية لها بهدف تحديد الافتراضات الأساسية الذي لا يزال الجدل مستمراً حولها إلى الآن.
ففي الفصل الأول، حاول الكاتب تحديد طبيعة الفلسفة ومجالها بشكلٍ عام، وتطبيقها في مجال السياسة، هو ذو طبيعة تجريدية لا محالة، وأي قارئ يجد به صعوبة، ينبغي أن يتجاهله في قراءته الأولى، ويمضي مباشرةً إلى الفصل الثاني، حيث يتم تعريف بعض القضايا الرئيسية للفلسفة الأخلاقية والسياسية وفق المصطلحات البسيطة التي استخدمها المفكرون الأوائل في اليونان القديمة. وفي باقي الفصول تناول الكاتب فيها أهم النظريات الفلسفية لأفلاطون، وأرسطو، ومكيافيلي، وهوبز، ووروسو، ووميل، وجون لوك، وهيوم، وهيغل، وماركس.
طبيعة ونطاق الفلسفة السياسية
حتى بداية القرن الحالي، كانت تُعتبر الفلسفة، عموماً، مصدراً للمعرفة التي تتجاوز، في نطاقها ويقينها، اكتشافات العلوم الطبيعية. فقد كان يُنظر إلى العلم على أنه يمثل تقدماً على صعيد معتقدات الحياة العادية غير الهامة وغير المترابطة في كثير من الأحيان، إلا أنه كان قائماً على ملاحظات الحواس ويتألف من تعميمات غير مؤكدة تستند إليها [أي إلى تلك الحواس]، في حين كان يُفترض أن تتكفل الفلسفة بالإجابة على أسئلة حول موضوعات مثل وجود الله، وطبيعة المعرفة، وسلطة القانون الأخلاقي، وهي الأسئلة التي لا يمكن للخبرة الحسية، بناءً على طبيعتها، أن تُلقي عليها أي ضوء.
ففي مثل هذه الموضوعات، كان يُعتقد أن العقل وحده هو من له اليد العليا ليطلق الأحكام، وعندما يقوم بذلك، فإن استنتاجاته تتسم بيقينٍ منطقي وكلّي لا يمكن أن تدّعيه تعميمات العلوم الطبيعية.
وهكذا، فإن القول بأن المعرفة يقينية وغير قابلة للشك هو ادّعاءٌ قال به جميع الفلاسفة ، بمعناه الواسع، صراحةً أو بشكلٍ ضمني على الأقل، وإذا تم السعي للحصول على تعريف قصير وبسيط للفلسفة، فقد يكون عنوان المحاضرات التي ألقاها البروفيسور الراحل جون ديوي بعنوان "البحث عن اليقين" يمثل نقطة انطلاق على الأقل.
يقول الكاتب أ.ر. موراي: "قد تبدو هذه الاعتبارات مجردة للغاية وعلاقتها بما يُغرف عادة باسم (الفلسفة السياسية) بعيدة عن الوضوح، ولكن في الواقع هذه العلاقة بسيطة وأساسية. حيث بما أن الفلسفة هي "البحث عن اليقين" ، وإذا كان اليقين أحد خصائص القضايا، فيجب أن يمزن البحث في طبيعة ونطاق اليقين، أي القضايا القبلية، هي المهمة الأساسية لكل الفلسفة. بعبارة أخرى، إذا كان الهدف العام للفلسفة هو اكتشاف طبيعة التفكير العقلاني ونتائجه، فإن البحث في طبيعة القضايا التي يُعبر بها عن التفكير العقلاني يعد بالضرورة أحد أهم مهام الفلسفة" (ص 15).
وقد اتفق جميع الفلاسفة الذين أدركوا أو اعترفوا بهذا التمييز بين القضايا التحليلية والتركيبية على أن القضايا التحليلية ضرورية وقبلية. بينما تركّز الجدل حول مسألة ما إذا كانت القضايا التركيبية يمكن أن تكون أحياناً قبلية أيضاً. وقد حددت الإجابات المختلفة المقدمة على هذا السؤال مفاهيم مختلفة للغاية حول نطاق الفلسفة والهدف منها. حيث أنه يجب دائماً أن تكون القضايا القبلية تحليلية، ينتج عن ذلك أن قضايا الفلسفة يجب أن تكون دائماً تحليلية.
وهو مبدأ الالتزام غير المشروط لفعل ما هو صحيح. وقد جسدت جميع التشريعات التاريخية هذا المبدأ، لأنها تتألف من "قوانين" من النوع المنصوص عليه في الوصايا العشر، والتي تنطوي على التزام غير مشروط بالقيام أو الامتناع عن بعض الأعمال والأفعال، لكن وفقاً لنظرية هيوم، فإن الحكم الأخلاقي هو التأكيد على أن هناك شيء ما يثير شعوراً معيناً، وليس هناك سبب يجعل هذا الشعور شعوراً عاماً يشعر به الجميع، ولا يوجد أي معنى في القول بأنه يجب أن يكون عاماً أو يشعر به الجميع، لأن كلمة "يجب" ذاتها هي ، في نظرية هيوم، تعبيراً عن الشعور.
لا يوجد أي مبرر للتمييز الشائع بين التصرف وفق "العقل" والتصرف وفق "العاطفة"، إذ أن كل الأفعال هي، في النهاية، بسبب العاطفة، والعقل، بطبيعته، يمكن أن يؤثر على الفعل فقط من خلال إظهار ملابساته وعواقبه المحتملة.
ولم يكتف هيوم بذلك، بل وسّع من دائرة هجومه على بعض الافتراضات التقليدية حول الأخلاق. فقد جادل بأنه، حتى لو تم اصدار أحكام أخلاقية من نوع ما، فلا توجد علاقة عقلانية بين هذا الحكم وبين الفعل الذي يتعلق به. إن سبب الفعل هو دائماً "العاطفة" أو الرغبة، والعقل له فقط وظيفة تابعة تتمثل في تحديد الظروف المحتملة أو عواقب بلوغ هدف الرغبة التي تُسبب الفعل. فالعقل، كما قال، هو "عبدٌ للمشاعر، ولا يمكن له التظاهر أبداً بأي منصب آخر غير خدمتها وطاعتها".
وبالتالي ، لا يوجد أي مبرر للتمييز الشائع بين التصرف وفق "العقل" والتصرف وفق "العاطفة"، إذ أن كل الأفعال هي، في النهاية، بسبب العاطفة، والعقل، بطبيعته، يمكن أن يؤثر على الفعل فقط من خلال إظهار ملابساته وعواقبه المحتملة. بمجرد حدوث ذلك سيكون السؤال حول ما إذا كانت الغاية المتوقعة، مع كل ملابساتها وعواقبها، ستكون مرغوبة أم لا، وما إذا كانت مرغوبة بالقدر الذي يكون كافياً لإحداث الفعل، هو سؤالاً تجريبياً خالصاً.
لقد أثارت رؤية هيوم الثورية عن وظيفة العقل رد فعل بطبيعة الحال، وكانت فلسفات المفكرين الألمان العظماء إيمانويل كانط (1804- 1724م) وجورج فيلهلم فريدريش هيغل (1831- 1770م) محاولات لاستعادة الوظائف الإيجابية للعقل التي أنكرها هيوم.
يقول الكاتب أ.ر. موراي: "وقد سعى كانط وهيغل إلى القيام بذلك من خلال التأكيد على الوظيفة الفعالة للعقل في المعرفة، وتحديداً، من خلال القول إنه في حين أن القضايا التركيبية قد تكون في حد ذاتها خالية من الضرورة المنطقية، إلا أنها تتميز بنوع آخر من الضرورة (التي يطلق عليها كانط"الضرورة الترنسندنتالية "المتجاوزة") المستمدة من العقل الذي نشأت فيه. إنها ضرورية، ليس بالمعنى المنطقي بحيث أن كذبها لا يمكن تصوره، ولكن بالمعنى الترنسندنتالي، بحيث أن التجرية لا يمكن أن تأخذ الشكل الضي تتخذه إلا إذا افترضنا أنها (أي تلك القضايا التركيبية) صحيحة كليّاً. هذه، باختصار ، هي نظرية كانط لطبيعة القوانين السببية والأخلاقية. فهو يعترف بأنها قضايا تركيبية لكنه يدّعي أنها قبلية أيضاً ولكن بالمعنى الترنسندنتالي التجاوزي "(ص21).
قد يتساءل العديد من الفلاسفة عما إذا كانت النظريات من هذا النوع تشكل أي إجابة حقيقية لتجريبية هيوم. وقد يتساءلون عما إذا كانت تلك "الضرورة المتجاوزة" أكثر من مجرد الانتظام التجريبي الذي أقرّه هيوم، وعمّا إذا كانت، على سبيل المثال، حقيقة أننا نفسر دائماً تجربتنا وفق الاطرادات السببية تبرر الاستنتاج القائل بأننا نفسرها بالضرورة بهذه الطريقة. يجب على الأقل الاعتراف بأن هيوم والفلاسفة الآخرين الذين لهم نفس رأيه، لم يفسروا تجربتهم بهذه الطريقة. ومن الصعب أن نرى لماذا لا يمكن وصف الاعتقاد شبه العالمي في إقرار السببية.
الفلسفة السياسية عند مكيافيلي
يعتبر مكيافيلي أول فيلسوف للتاريخ ومفكر سياسي في العصر البرجوازي الصاعد، فضلاً عن أنه رائد للمجتمع البرجوازي الصاعد، حيث أنه استطاع أن يحرر السياسة من اللاهوت، واللاهوت من السياسة، ويؤسس علم السياسة، الذي أسهم إسهاماً حقيقياً في تطور وازدهار ذلك المجتمع البرجوازي.
وهذا العلم السياسي الحديث المؤسس في عصر النهضة، هو ملازم منذ نشأته بتطور علوم الفيزياء والكيمياء، وإدخال الأساليب الرياضية في هذه العلوم، وبتطور العلوم الميكانيكية التي تستخدم الرياضيات، وعلم النفس الجديد، وبتطور التقنية والصناعة، وابتكار وسائل جديدة للانتاج، حيث أن مكيافيلي اعترف بمسألة التماثل بين وجود علم للسياسة وبين المحرزات الايجابية والتقدمية للعصر البرجوازي الجديد، وحيث أن المجتمع البرجوازي الوليد يسعى إلى السيطرة على الطبيعة، مثلما كان يقوم أيضاً على سيطرة بعض الناس على أناس آخرين.
ليس من شك أن مكيافيلي كفيلسوف سياسي، قد خلق المعنى الذي ارتبط بالدولة في الاستعمال السياسي الحديث، ألا وهو سيادة الدولة، أو الكيان السياسي ذي السيادة، "فالدولة كقوة منظمة لها التفوق على أرضها وتنهج سياسة واسعة من التوسع في علاقاتها مع الدول الأخرى، لم تصبح المؤسسة السياسية الحديثة والنموذجية فحسب، ولكنها أصبحت بصورة متزايدة أقوى مؤسسة في المجتمع الحديث".
ليس من شك أن مكيافيلي كفيلسوف سياسي، قد خلق المعنى الذي ارتبط بالدولة في الاستعمال السياسي الحديث، ألا وهو سيادة الدولة، أو الكيان السياسي ذي السيادة،
إن الخلل المنهجي في تفكير مكيافيلي يكمن في تصوره للتاريخ، باعتباره نمطاً من التفكير والاحساس قائم على عوامل طبيعية ثابتة تاريخياً، دون أخذ بعين الاعتبار العوامل والمتغيرات الاجتماعية، وانعكاساتها على الطبيعة البشرية ذاتها ـ فعناصر النفس البشرية، كالغرائز، والأهواء، التي تشكل مكونات الطبيعة البشرية، تظل ثابتة عند مكيافيلي، في حين أن منطق العلم الجديد، يقر بأن ما هو ثابت هو نسبي، وإن هذه العناصر عينها النفسية والفيزيقية الطبيعية، تتطلب دراستها، ورؤيتها ضمن الشروط المحددة من الواقع التاريخي، في إطاره الزماني والمكاني وفي تعاقب أطواره ومراحله.
يقول الكاتب أ.ر.موراي: "لا يمكن وصف مكيافيلي بأنه فيلسوفاً عميقاً، لكن أعماله تحظى باهتمام خاص من الفلاسفة كمحاولة حل مشكلات السياسة من الناحية العلمية البحتة. لقد حاول معظم الفلاسفة السياسيين إيجاد مبرر اخلاقي لُمُثل الحكومة، لكن مكيافيلي مفكر سياسي يتعامل مع المعتقدات الأخلاقية ببساطة باعتبارها قوى نفسية تلعب دورها، إلى جانب التأثيرات الأخرى، في تشكيل تاريخ الأمم. وهو ينكر أن هذه المعتقدات الأخلاقية لها أي أساس ذو طبيعة موضوعية، أي توفر أي مبدأ عقلاني يمكن من خلاله تبرير السلوك البشري أو إدانته.
وبصفته عالماً سياسياً، لا يهتم مكيافيلي بما يجب ان يكون عليه الرجال، فهذا بالنسبة له سؤال لا يمكن تقدي إجابة موضوعية أو عقلانية عليه، إنه مهتم فقط بماهية الرجال الفعلية، على الرغم من أن هذا بالطبع يشمل طبيعة القناعات الأخلاقية التي يحملونها بالفعل"(ص 99).
وهكذا فقد فكّر مكيافيلي في المشهد السياسي بالنظرة الموضوعية للباحث العلمي. فهو لم يكن مهتماً بالحصول على دعم لأي قناعات أخلاقية حول الأهداف الصحيحة للحكومة، إذ لم يكن لديه أي منها. لقد اعتقد أن على الحكومة أن تهدف إلى فعل ما ستضطر في النهاية إلى تحقيقه، أي تحقيق الأهداف التي من أجلها سيقبل الرجال بالالتزامات والقيود التي تفرضها عليهم، وكان يعتقد أن الهدف الأساسي للعالم السياسي هو اكتشاف هذه الأهداف وتحديدها، ثم المضي قدماً لإظهار، في ضوء التجربة، كيف يمكن تحقيقها بأكبر قدرٍ من الفعالية.
لا يمكن تحقيق الأمن القومي إلا عن طريق التفوق الوطني، وتفوق دولة واحدة يعني الدونية، وبالتالي عدم الأمان، من جانب أخرى. وقد باتت تلك الحلقة المفرغة سمة مألوفة للعلاقات الدولية في العصر الحديث.
تُشبه نظرية مكيافيلي عن أصل الحكومة تلك التي سيقوم الفيلسوف البريطاني، توماس هوبز، بتقديمها بعد أكثر من قرن من الزمان. إن الرجال، وفقاً لمكيافيلي، "جاحدون، ومتقلبون، ومخادعون، وجشعون". إن صفاتهم الاجتماعية تعبر عن المصلحة الذاتية بشيءٍ من التنكر.
نهاية المطاف، قد يتم تفويض الممارسة الفعلية لهذه السلطة بشكلٍ كلي أو جزئي لفردٍ واحد، أو لمجموعة صغيرة من الأفراد، ولكن يجب أن يكون مصدرها النهائي بالضرورة هو الشعب ككل إذا كانت مطالبتهم تُشكل السبب النهائي لوجود الدولة على الإطلاق ويقبل مكيافيلي هذه النتيجة اللازمة عن نظريته. في الواقع إنه يؤيد بحماس رأي أرسطو القائل بأنه في المسائل الرئيسية يكون حكم المجتمع أقل عرضة للخطأ من حكم فرد واحد أو مجموعة صغيرة من الأفراد.
وكما يقول: "فيما يتعلق بالحكمة والاستقرار، أقول أن الشعب يكون أكثر حكمة ورزانة من الأمير. وبالتالي فهناك سبب وجيه لتشبيه صوت الشعب بصوت الله ، لأننا نرى أن الآراء الشعبية قليلاً ما تخطئ".
وبالتالي، على عكس الانطباع الذي غالباً ما يكوّنه من قرأ كتاب الأمير وحده، فإن مكيافيلي ليس من دُعاة الملكية المطلقة. بل على العكس من ذلك، فهو يعتقد ديمقراطي، يكون من الآمن افتراض أن سلطة الحكومة لن يتم استغلالها. وهو يعترف بأن الملكية المحدودة قد تكون ضرورية في بعض الأحيان لفترة، لكنّه يُصر على أنه لن يتم التوصل إلى أساس سليم للحكومة إلا عندما يتحمل الشعب نفسه المسؤولية النهائية.
بيد أن هناك جانب واحد هام، حسب اعتقاد مكيافيلي، تختلف فيه الدولة ككل عن معظم الأفراد الذين يشكلونها. إذ يكون غالبية المواطنين راضون عن الأمن الشخصي وأمن الممتلكات وأقلية صغيرة فقط هي من تسعى للسلطة على نظرائهم. لكن الدول ككل تهيمن عليها شهوة لا تنقطع للسلطة وأولئك الذين لا يحاولون توسيع سلطتهم يكونون مضطرين على المدى البعيد لفقدانها. فلا يوجد استقرار أو قناعة في مجال العلاقات الدولية.
إذن لا يمكن لدولة ما أن تحقق الهيمنة التي يرغب بها الجميع إلا على حساب دولة أخرى، ولا بد أن تكون تلك الدولة الأخرى غير راضية عن وضعها الأدنى. بعبارة أخرى، لا يمكن تحقيق الأمن القومي إلا عن طريق التفوق الوطني، وتفوق دولة واحدة يعني الدونية، وبالتالي عدم الأمان، من جانب أخرى. وقد باتت تلك الحلقة المفرغة سمة مألوفة للعلاقات الدولية في العصر الحديث.
يقول الكاتب أ.ر.موراي: "الأمير أو الملك" من أجل حكم المجتمع بفعالية. اعتقد مكيافيلي أن الملكية أو الديكتاتورية يمكن تبريرها لسببين فقط: صنع دولة من وحدات أصغر، أو إصلاح دولة فاسدة. وبالتالي فإن كتاب "الأمير" هو في الأساس دليل للحكمة الدنيوية تم إعداده ليكون مرشداً للحاكم الذي يواجه واحدةً أو أخرى من هذه الحالات. وقد كُتب خصيصاً بهدف إظهار كيف يمكن دمج إيطاليا في دولة قوية وموحدة من الإمارات الخمس ـ إقليم الكنيسة الرومانية ومملكة نابولي ودوقية ميلانو وجمهوريات البندقية وفلورنسا- التي انقسمت البلاد إليها في بداية القرن السادس عشر"(ص 102).
معالم الانتفاضة الثقافية عند إدوارد سعيد.. قراءة في كتاب
الإيمان من جفاف النظريّة إلى تجربة تحرير الإنسان العمليّة
كيف تتعامل أوروبا مع دول الشرق والخليج العربي؟