يخوض النظام
المصري بقيادة عبد الفتاح
السيسي عدة معارك في توقيت واحد، بعضها "اضطرارية" مثل أزمة السد الإثيوبي، وبعضها "اختيارية" مثل بناء ما وصفه بالجمهورية الجديدة، وبعضها "احتيالية" مثل معركة
الهوية التي أعاد فتحها مؤخرا من خلال مهرجان موكب مومياوات الملوك الفراعنة وقرار تدريس اللغة الهيروغليفية في المدارس.
على مدار السنوات الماضية ظل السيسي يلمح إلى مشروعات ضخمة لا يريد الكشف عنها "خوفا من عيون الأشرار!!" حسب تعبيره، ثم ظهرت بعض هذه المشاريع لاحقا ومنها
العاصمة الإدارية الجديدة في صحراء شرق القاهرة وعلى مقربة من مدن القناة، وظهر من تصميماتها أنها مؤمنة بشكل كامل ضد الاضطرابات الأمنية، بما يوفر أمنا للمقيمين فيها من قادة الدولة والطبقة الداعمة لهم ورجال الأعمال. وقد اعتبر السيسي أن افتتاح هذه العاصمة ومعها عدة مدن جديدة أخرى بمثابة إعلان عن تأسيس الجمهورية الثانية،على أنقاض الجمهورية الأولى التي بدأت مع حركة الضباط الأحرار في 23 يوليو (1952)، وانتهت بسقوط الحكم في أيد مدنية بعد ثورة 25 يناير (2013)، ما تطلب انقلابا عسكريا لاستعادة تلك السلطة وتدشين الجمهورية الجديدة، والتي هي في الحقيقة ليست جديدة بل تجديدا للجمهورية العسكرية ذاتها (كان من الممكن القول إن مصر دخلت عهد الجمهورية الثانية لو استمر الحكم المدني بعد ثورة يناير).
لم يحدد السيسي ملامح تفصيلية لجمهوريته الجديدة (خوفا من عيون الأشرار!!) ولكنه ذكر بين الحين والآخر بعض الأفكار التي تمثل ملامح لهذه الجمهورية، مثل كلام رئيس حكومته عن "دولة مدنية حديثة"، ولا أدري كيف لحاكم عسكري وصل إلى الحكم عبر انقلاب عسكري أن يقيم دولة مدنية؟!
كما أنه يتخذ من السياسات والإجراءات العملية ما يضع أسسا لهذه الجمهورية، مثل هيمنة المؤسسة العسكرية على الاقتصاد والإعلام، وتشديد القبضة الأمنية على كل مناحي الحياة، ومثل المشاريع الضخمة التي لا تمثل أولوية قومية ولكنه يستخدمها لترويج "شرعية الإنجاز" كبديل للشرعية السياسية والدستورية، وليرفع بها الروح المعنوية للشعب المنهك سياسيا واقتصاديا وأمنيا.. الخ. ومن ذلك بطبيعة الحال تأسيس عاصمة جديدة على مقاسه، وبناء أكبر مسجد وأكبر كنيسة، وأطول برج، وأكبر قاعدة بيانات تحت الأرض فيها (ما يسمى عقل مصر، وهو مشروع يربط الوزارات والهيئات الحكومية الكترونيا).. الخ.. الخ.
لسنا ضد التطوير بطبيعة الحال، ولكن المهم أن يكون التطوير لصالح الشعب ووفق أولوياته الملحة، ووفق دراسات جدوى حقيقية، بينما نحن أمام حاكم لا يؤمن أصلا بدراسات الجدوى ويقول إنه لو توقف عندها فلن ينجز شيئا!! فلم تكن مصر بحاجة لتفريعة جديدة لقناة السويس كلفت المصريين ثمانية مليارات دولارات، ولم تجلب أي عوائد جديدة، واضطر السيسي للاعتراف بأنها كانت بهدف رفع الروح المعنوية، ولم تكن مصر بحاجة ماسة وعاجلة لهذه العاصمة الإدارية الجديدة وأكبر المساجد والكنائس والأبراج؛ في ظل ميزانية تعاني عجزا مزمنا ومزعجا، وفي ظل ديون خارجية متصاعدة تجاوزت الـ150 مليار دولار، ناهيك عن تريليونات الديون الداخلية.
ولم تكن مصر بحاجة لبناء متحف جديد أو موكب للمومياوات، أو حفل فني مصاحب بتكلفة 17 مليار جنيه حسب تصريحات وزير السياحة خالد العناني، لكن مصر بالتأكيد في حاجة لبناء المزيد من المدارس والمستشفيات والمصانع.. الخ، وهو مالا تهتم به السلطة الحالية رغم أن الدستور يلزمها بتخصيص نسبة 3 في المئة على الأقل للإنفاق الصحي، و4 في المئة للإنفاق التعليمي، و3 في المئة للتعليم العالي والبحث العلمي.
وبينما ينشغل السيسي ببناء جمهوريته وعاصمته داهمته مشكلة السد الإثيوبي التي كان قد اطمأن لحلها؛ بعد أن أخذ من رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد أيمانا مغلظة أمام الناس أنه لن يضر مصر!! وبعد أن وقّع بنفسه اتفاق إعلان المبادئ في آذار/ مارس 2015، وتصور أنه يحميه، فإذ به يصبح سيفا على رقبته تستخدمه إثيوبيا لإتمام بناء السد وملئه وتشغيله بطريقة منفردة.
لم يستمع السيسي لتحذيرات المخلصين من أبناء الوطن حين وقع تلك الاتفاقية المشئومة، ولا حين رتب ذلك المشهد المسرحي الهزلي لاستنطاق آبي أحمد كلمات لا يفهمها عن عدم الإضرار بمصر، وظل السيسي منفردا بإدارة هذه الأزمة، حتى أن وزيري الري والخارجية لم يطلعا على إعلان المبادئ الذي قدمه السيسي للإعلام المصري باعتباره الحل السحري، فظهرت الصحف في اليوم التالي بمانشيت موحد "السيسي حلها".
فشلت كل جولات المفاوضات مع الإثيوبيين الذين تمسكوا باتفاق إعلان المبادئ الذي لم يحفظ لمصر حقوقها التاريخية في حصص المياه من ناحية، كما أنه يمنعها من اللجوء إلى التحكيم الدولي إلا بموافقة إثيوبيا من ناحية ثانية، ووجد السيسي نفسه في "حارة سد". وتزايدت مخاوف المصريين على أمنهم المائي الذي يسبق أي شيء آخر، وفشل السيسي في التنصل من المسئولية التي راح يلقيها تارة على ثورة يناير وتارة على الرئيس الراحل محمد مرسي، متجاهلا أنه كان جزءا أساسيا من القيادة العسكرية التي حكمت مصر بعد ثورة يناير كمدير للمخابرات الحربية ثم كوزير للدفاع في عهد مرسي، وفي كلا العهدين ظل ملف السد حصرا بيد المؤسسة العسكرية. وأمام تصاعد المخاوف الشعبية اضطر السيسي أن يلوح باستخدام القوة بعد أن رفض ذلك من قبل، لكنه ما لبث أن تراجع عن هذا التلويح مجددا!!
كعادة كل الحكام الطغاة حين يتعرضون لأزمات كبرى فإنهم يصطنعون معارك جانبية لتشتيت الأنظار عنهم، وهنا حرص السيسي على إطلاق معركة جديدة حول الهوية المصرية ليفتح بابا للعراك مجددا بين التيارات السياسية المختلفة من ناحية، وليحاول تكريس هوية جديدة لجمهوريته الجديدة (تحت التأسيس) وهي الهوية الفرعونية، في استدعاء لمعركة حدثت في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي، وعادت مرات متكررة بعد ذلك في موجات بين مد وجزر مع وجود أزمات قومية أيضا.
كان المظهر الرئيس لهذه المعركة الجديدة هو ذاك الموكب المبهر لمومياوات ملوك الفراعنة خلال الانتقال من المتحف المصري بالتحرير إلى المتحف القومي الجديد في الفسطاط (جنوب القاهرة)، وما صاحب ذلك من زخم إعلامي وثقافي يمجد الحضارة الفرعونية، ويكرس القداسة لأولئك الفراعين الذين حكموا مصر لآلاف السنين، مع ما يستدعيه ذلك بطريقة مباشرة أو غير مباشرة عقائد أولئك الفراعين ومقدساتهم ولغتهم التي قررت السلطات المصرية تدريسها أيضا لتلاميذ المرحلة الابتدائية؛ رغم أنها لغة مندثرة وغير ذات قيمة عملية إلا لمرشدي السياحة والآثار الذين يتعلمونها في كلياتهم المتخصصة.
السيسي هو من افتعل معركة الهوية هذه المرة، وليست إحدى القوى السياسية، وليس التيار الإسلامي بطبيعة الحال. فالعقلاء في مصر يدركون أن تاريخهم هو كل لا يتجزأ، بدءا من أول الخليقة ومرورا بحضارة الفراعنة واليونانية والرومانية والمسيحية، وانتهاء بالحضارة العربية الإسلامية. وكل تلك الحضارات تركت بصماتها على الشخصية المصرية، كما أن توالي العهود كان بمثابة التطور الطبيعي للحضارة بشكل عام، وصولا إلى أحدث نسخها في الحضارة العربية الإسلامية التي استوعبت ما سبقها من خيرات الحضارات السابقة وأضافت إليه بصمتها الخاصة، وبالتالي فإن إعادة التركيز على حقيبة واحدة من التاريخ المصري هو إثارة لفتنة هوياتية يريد الجنرال توظيفها لصرف الأنظار عن أزماته وخاصة أزمة المياه، أيضا في رسم ملامح هوياتية لجمهوريته التي يبشر بها، لكنه حتما سيفشل في مسعاه كما فشل سابقوه. فما استقر في ضمير وتاريخ المصريين عبر مئات بل آلاف السنين لن يستطيع حاكم فرد مهما أوتي من قوة تغييره في سنة أو سنوات، وستظل قضية السد الإثيوبي هي التي تقض مضاجع المصريين، لأن معركة الهوية المفتعلة لن توفر لهم شربة الماء التي يوفرها لهم النيل.
twitter.com/kotbelaraby