المشهد الإنساني المؤثر الذي انتشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي لاستقبال الفلسطيني المُحرَّر رشدي أبو مخ من باقة الغربية في الداخل المحتل، الذي اعتقل سنة 1986م وأُفرج عنه بعد قضائه خمسة وثلاثين عاما في الأسر، لتكون أولى أهدافه خارج الأسر هي احتضان قبر والدته التي انتظرته ثلاثة وثلاثين عاما وتوفيت قبل عامَيْن دون أن تتمكن من احتضانه.
الأسير أبو مخ الذي يُعد أحد عمداء الأسرى في
سجون الاحتلال لم يكن الوحيد الذي تنسّم الحرية خلال الآونة الأخيرة، فقد عانق
الحرية مؤخرا عدد من الأسرى الأحرار كان منهم الأسير المقدسي مجد بربر الذي أمضى
عشرين عاما في سجون الاحتلال، والأسير رأفت القروي من رام الله، الذي أمضى خمسة
عشر عاما في الأسر، سبقها ستة أعوام من المطاردة لجيش الاحتلال، ليعانق الحرية
اليوم ويحتضن أطفاله الأربعة الذين أنجبهم من خلال نطف "الحرية" التي
نجح في تهريبها من المعتقَل.
الحديث عن معانقة أسرانا الأبطال للحرية يأتي
في ظل إطلاق حملة تضامن واسعة شهدتها مواقع التواصل الاجتماعي مع الأسير حسن سلامة
الذي كان مُدرجا على قائمة القدس موعدنا المدعومة من حركة حماس قبل استبعاده من
قوائم الترشح للمجلس التشريعي بقرار من محكمة الانتخابات بسبب عدم وجود اسمه في
قوائم الانتخاب دون مراعاة لخصوصية الأسرى، ورمزية قضيتهم، فهي قضية إنسانية
وطنية، وهي أسمى من قرارات لجنة الانتخابات ومحكمة الانتخابات المؤقتة، والأصل أن
يُعالَج هذا الملف وفق توافق وطني بعيدا عن النصوص واللوائح القانونية، التي يفترض
أنها وُضعت لخدمة الشعب الفلسطيني وقضاياه الوطنية الجامعة.
فالأسرى هم رمز لصمودنا، وكما تفخر كل أمّ
ببطولة ولدها الأسير وصموده داخل الأسر، تفخر القوى الفلسطينية الفاعلة برموزها
الأسرى وتعدّهم رافعة وطنية للنضال الفلسطيني، فإدراج أسماء الأسرى على القوائم
الانتخابية ليس تزلّفا للناخب الفلسطيني، بل للتذكير بتضحيات الأسرى، ومعاناتهم،
وصمودهم داخل الزنازين وفي المعتقلات، فهُم أسمى من استثمار أسمائهم في دعاية
انتخابية هنا أو هناك.
قضية الأسرى هي عنوان وطني لقضيتنا العادلة،
لذلك كان لدينا وزارة للأسرى ويوم للأسير الفلسطيني ومؤسسات حقوقية وأهلية تُعنَى
بقضية الأسرى، وفعاليات شعبية ونخبوية للتضامن مع الأسرى على مدار العام، وكان
الأجدر أن ننأى بأسرانا عن أي خلاف سياسي خاصة مع توافق القوى الفلسطينية على
تحصين المجلس التشريعي المقبل من جرائم جيش الاحتلال الذي يتعمد استهداف
الديمقراطية الفلسطينية من خلال استمرار اعتقال وملاحقة النواب المنتخبين.
لطالما كانت وما زالت سياسة الاعتقال لأبناء
شعبنا إحدى أبرز أدوات القمع الصهيوني لأبناء الشعب الفلسطيني، حيث ذاق مرارة
الاعتقال أكثر من مليون فلسطيني منذ عام 1967م، وبحسب إحصائيات مؤسسة الضمير
لرعاية الأسير وحقوق الإنسان فإن أربعة آلاف وأربعمئة وخمسين معتقلا ما زالوا
يقبعون في السجون والمعتقلات، منهم سبعة وثلاثين أسيرة فلسطينية، ومئة وأربعون طفلا،
كما أمضى ثلاثة وثلاثون أسيرا أكثر من ربع قرن من الزمن داخل الأسر، منهم ستة
وعشرون أُسِروا قبل توقيع اتفاقية أوسلو.
واليوم على أعتاب ذكرى يوم الأسير الفلسطيني
في السابع عشر من شهر أبريل الحالي، نستحضر قضية الأسرى، ومعاناة خمسمئة وثلاثة
وأربعين أسيرا يواجهون أحكاما صهيونية جائرة مدى الحياة، لكنهم لم يفقدوا الأمل
بإبرام صفقة تبادل بين المقاومة والاحتلال، تُمكِّنهم من احتضان ذويهم ومعانقة شمس
الحرية من جديد.
إن التضامن مع الأسرى في سجون الاحتلال يُعد
مسؤولية وطنية ومجتمعية، ورغم أهمية الفعاليات الشعبية التضامنية معهم، فإن أشكال
المؤازرة والدعم لقضيتهم ولذويهم تبقى بحاجة إلى المزيد من الاهتمام السياسي
والإعلامي والاجتماعي، فسياسيا ينبغي للسلطة الفلسطينية أن تعزز حضور قضية الأسرى
في المحافل الدولية، وبين النُّخب والمجتمعات العربية والأجنبية، وتفعيل دور
الجاليات العربية والإسلامية في الغرب لنصرة قضيتهم، فالأسرى الفلسطينيون وفق
دراسة قانونية نشرتها المنظمة العربية للهلال الأحمر والصليب الأحمر، هم مقاتلون
شرعيون وليسوا مجرمين، وتنطبق عليهم مواد اتفاقية جنيف الثالثة لسنة 1949م
والبروتوكول الإضافي الأول لسنة 1977م، كما تُعَد ممارسات الاحتلال اللاإنسانية
ضدهم في السجون، وحرمانهم أبسط حقوقهم الإنسانية، جريمة حرب تستوجب التدخل الفوري
لوضع حد لها.
وعلى الصعيد الإعلامي ينبغي أن تكون قضية
الأسرى حاضرة على مدار العام في وسائل الإعلام الفلسطينية، فلا يكفي منا تسليط
الضوء على فعاليات يوم الأسير، أو نستحضر سيرة الشهداء الأسرى، وكأننا نحيي ذكرى
من فقدناه إلى الأبد، فالأسرى يتشبثون بنا، ويأملون منا أن نستحضر معاناتهم
وصمودهم على مدار الساعة، خاصة من طال غيابه منهم، أو من يعاني المرض منهم، الذين
جاوز تعدادهم سبعمئة أسير.
ومجتمعيا يجب أن يشعر ذوو الأسرى باحتضان
المجتمع لهم، من خلال تَفَقّد حاجاتهم، ورعاية أبنائهم، وتوفير الرعاية الصحية
والمجتمعية لهم، ومتابعة تربية وتعليم أطفالهم، فمعاناة ذوي الأسير تُفاقم من
معاناته داخل الأسر، وتغرس في نفسه غصّةّ وألما، وقد تُعرِّضه لاهتزازات نفسية
تؤثر في صموده في مواجهة السجان.
ختاما فإن رسالتنا لأسرانا الأبطال في سجون
الاحتلال بأن يوم التحرير من الأسر قادم لا محالة، وإننا نثق بقدرة المقاومة وما
تملكه من أدوات للضغط على الاحتلال، وإصرارها على الإفراج عن كل المعتقلين من
السجون والمعتقلات، ونقول لهم على أعتاب ذكرى يوم الأسير.. يا دامي العينين
والكفين إن الليل زائل، فلا غرفة التوقيف باقيةٌ ولا زرد السلاسل.
صحيفة فلسطين