يشهد سوق التطبيع هذه الأيام ازدهارا لافتا. فمنذ أن أعلن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب موسم الهجرة إلى الحضن الإسرائيلي والعرب يسيرون بخطى حثيثة نحو الهدف. ولا نتفهم هرولة المهرولين بكل تأكيد. فهي مدانة كيفما كانت للأسباب التي سنعرض لاحقا. ولكننا ننزّل هرولة بعض محترفي السياسة ضمن بنائهم النفسي والذهني. فهم يدركون أنّ كراسيها هزازة لا تستقرّ في الوطن العربي بالديمقراطية والتداول السلمي على السلطة وإنما بالدعامة الأمريكية المكلفة. وطباعهم الميكافيلية تزين لهم اشتراءها رغم فداحة الثّمن. ونضع هرولة بعض رجال الأعمال ضمن غلبة هاجس الربح الأقصى والجدوى المالية عليهم، في عالمهم الفقير من القيم. ولكن كيف نفهم تطبيع المثقفين، صنّاع الوعي والقيم، فيما يدّعون؟
تطرح ورقتنا هذا السؤال وتعمل على الإسهام في الجدل الدائر على أيامنا. وكثيرا ما يرافق الحديث عن التطبيع مع العدوّ الإسرائيلي بوقائع محدّدة تخلّف صخبا عاتيا وخطابا متشنجا أقرب إلى حوار الطرشان في المسرح العبثي فلا يسمع المخاطبُ الآخرَ أو يجادله. أما مقالتنا هذه فترمي إلى الخوض في الظاهرة في كليتها، بهدوء ورويّة وإلى تنزيلها ضمن المبادئ العليا التي توجه المثقف، وتطرق الظاهرة في الحقل الثقافي أساسا.
1 ـ التطبيع الثقافي وغلاف النوايا الحسنة
يطلّ علينا دعاة التقارب الثقافي مع إسرائيل، أو مع إسرائيليين، بانتظام. ويكون ذلك في شكل تطبيع سافر شأن تنظيم حفلات مشتركة، وعرضها على الملإ كما فعلت القناة المغربية الثانية 2M حين بثت حفل طوم كوهين "الإسرائيلي" رئيس أوركسترا فرقة القدس، بحضور المغنية الإسرائيلية نطع لخيام، وبمشاركة عازفين ومغنين مغاربة أو كما يفعل عديد المطربين التونسيين الذين يحيون بانتظام الحفلات الفنية في إسرائيل.
وقد يكون في شكل تواصل أكاديمي أو عبر ترجمة بعض الأعمال الفكرية والأدبية، مما يعتبره أصحابه سفرا تلقائيا للنص نحو ثقافات الأخرى، بريئا من كلّ شبهات التطبيع الذي يعارضونه. وهذا ما يستوجب تواضعا حول مفهوم التطبيع وميثاقا نحدد وفقه مدى انخراط نشاط ما ضمنه.
فوثيقة ممثّلي الأحزاب والهيئات الشعبيّة والنقابيّة تحدّده بكونه: "المشاركة في أيّ مشروعٍ مصمَّمٍ خصّيصًا للجمع بين فلسطينيين (و / أو عرب) وإسرائيليين (أفرادًا كانوا أو مؤسّسات)، ولا يهدف صراحةً إلى مقاومة أو فضحِ الاحتلال وكلِّ أشكالِ التمييز والاضطهاد الممارس على الشعب الفلسطينيّ. وأهمُّ أشكال التطبيع هي تلك النشاطات التي تهدف إلى التعاون العلميّ أو الفنّيّ أو المهنيّ أو النسويّ أو الشبابيّ، أو إلى إزالة الحواجز النفسيّة. وتُستثنى من ذلك المنتدياتُ والمحافلُ الدوليّة التي تُعقد خارج الوطن العربيّ [و] يشترك فيها إسرائيليون إلى جانب مشاركين دوليين، ولا تهدف إلى جمع الفلسطينيين أو العرب بالإسرائيليين..." ( أنظر الموقع: https://www.pacbi.org/atemplate.php?id=50).
ويُعدّ هذا التحديد مرجعيا لدقته أولا ولكونه صادرا عن جهات تسحب البساط من تحت أقدام القائلين بأنّ تواصلهم مع الإسرائيليين يخدم القضية الفلسطينية أساسا. فلا يمكننا بحال أن ندّعي الحرص على الحقّ الفلسطيني أكثر من أصحابه المعنيين به مباشرة. ولا ترمي هذه الورقة إلى مجادلة المطبعين، على "سبيل القصد والنية" المعلنين أنهم يمارسون حقهم في الاختلاف وفي حرية التعبير. فهؤلاء حسموا أمرهم واختاروا الطرف الذي يناصرون، بحجة أنّ الفن والثقافة يخترقان الحدود والهويات التي يصنعها السياسي لحساباته الضيقة. وإنما تناقش مواقف يقدّر أصحابها سلامتها من التطبيع وحجتهم أنهم لم ينالوا مقابلا لترجماتهم أو لأنشطتهم الفكرية وأن انخراطهم عمل خالص لوجه القضية الفلسطينية. ونقدّر نحن أنها "لا تهدف صراحةً إلى مقاومة الاحتلال أو فضحِ مختلف أشكالِ التمييز والاضطهاد الممارس على الشعب الفلسطيني" وأنها تقع في صميمه بالنتيجة.
وكثيرا ما يتخذ التطبيع عند هذه الفئة عناوين نبيلة ويغلّف بالعديد من النوايا الطيبة كاعتبار "الانفتاح على الثقافة الإسرائيلية" ضرورة قوميّة. فيعدّونه فرصة لمعرفة العدوّ وتفكيك آليات تفكيره وتحديد أفضل السبل للتعاطي معه. وحجتهم أنّ "الإسرائيليين" متحرّرون من هذه العقدة وأنهم يعملون على معرفة هذا الآخر. فيترجمون أدبه ويشاهدون أفلامه ويرقصون على أنغام موسيقاه. ويدّعون أنهم يستغلون هذه الجسور لتبليغ الصوت العربي إلى الخيّرين من الإسرائيليين ويشرحون لهم وجهات نظره. ولكن هيهات ! فالموقف لم يكن يوما بهذه البساطة والسطحية.
2 ـ جلاّد وضحية ومتلازمة ستوكهولم بينهما
لا مناص لنا من أن نتسلح بالكثير من حسن النية ونحن نحاول فهم دواعي مواقف هؤلاء المثقفين المطبّعين، فنعدّها ناتجة عن طموحهم الحاد من جهة وهزيمتهم النفسية العميقة من جهة ثانية، في سياق حضاري محبط سمته خيانات المتاجرين بالقضية الفلسطينية ومؤامراتهم التي حوّلتها إلى رأسمال رمزي. أو نردّها إلى ما يعانونه من اليأس، نتيجة للتفوق الإسرائيلي.
ولا مناص لنا بالمقابل من أن نتسلح بكثير من الشجاعة لنعترف بأن مؤسسي إسرائيل قد آمنوا بـ"ـقضيتهم" التي صنعتها الأساطير التلمودية ونبؤاتها وفق كتابهم المقدس، بأن يجعلهم الرب مباركين وسط الأمم المتعددة، فيعطيهم أرض كنعان وما جاورها ويجعلها ملكا لهم وأنّ الأرض المقدسة ستكون في آخر الزمان تحت سلطتهم، مقابل عبادته والتزامهم بتعاليمه. فقد ثابروا لقرون طويلة وتوارثوا هذا الإيمان وخرجوا من الكتب الصفراء وأخرجوا لغتهم من المتاحف والمعاجم المنسية. ثمّ استطاعوا بعد احتلال فلسطين أن يشكلوا اللوبيات في عالم السياسية والإعلام والثقافة ودوائر المال والاستثمار. فهيمنوا على أسواق الذهب أينما حلوا وجعلوا هيمنتهم منصة لدعم إسرائيل ماليا ومعنويا.
المدان حقّا هو هذا التعاطي المباشر مع المحتل، ومدّ قنوات التواصل معه بما يكسر حاجز العداء معه ويرفع عنه الحرج ويمهد إلى التسليم في الحقوق والقبول بالأمر الواقع، وينزع عنه صفة الكيان الغاصب للأرض المعادي للقيم الإنسانية ويشجّع على التغاضي عن كونه يجرم في حقّ الإنسانية ويمارس التطهير العرقي وينشر الحقد والكراهية ويمعن في سياسته العنصرية.
لنسلم بهذا كلّه ولنعتبر أن المغلوب مولع باتباع الغالب كما يقول العلاّمة عبد الرحمان ابن خلدون. ولكن الإفراط في حسن النية أول مراتب السذاجة. فمهما بحثنا لهم عن الأعذار فلن نجد في هذه المواقف المتخاذلة غير تلك العلامات والأعراض التي تظهر بشكل تكرّري لدى ضحية الإساءة أو التعذيب ويُعرف بمتلازمة ستوكهولم (syndrome de Stockholm). وغير ذلك الاستسلام الذي تبديه هذه الضحية تجاه جلادها فتظهر له الولاء وتقع في عشقه وتفقد قدرتها على كل مقاومة.
3 ـ الطمع في المباركة المستحيلة
من مأثور العرب قولهم "حبك الشيء يعمي ويصمّ" وحب رهط كثير من هؤلاء للبروز يجعلهم يعتقدون، وقد كرهوا الأفق العربي الضيق، أن الذراع الإسرائيلية الطويلة في دنيا الثقافة والإعلام يمكن أن تباركهم وتمتد لتنتشلهم وترمي بهم في سماء العالمية الرّحب، حالما يحتكون بها ويخفضون لها جناح الذّل. فيفوتهم أنّ إسرائيل دأبت على الأخذ من الجميع ولم تتعلّم أن تمنح أحدا شيئا. وهل أجدر من دونالد ترامب بتلك الذراع وهو الذي فعل كل ما تتمناه إسرائيل. وتجرأ على اتخاذ قرارات لم يتجرأ عليها غيره من رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية، فقد أوقف استخدام مصطلح "الأراضي المحتلة" عند الإشارة إلى الضفة وغزة. وأغلق مكتب تمثيل منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن. وقطع المساعدات المالية عن السلطة الفلسطينية وعن وكالة الأونروا وعن مستشفيات القدس الشرقية. واعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل إليها السفارة الأمريكية وقرر تسجيل المواليد الأميركيين في القدس أنهم ولدوا في إسرائيل.
ثم اعتبر حملة مقاطعة إسرائيل معادية للسامية. واعترف بسيادة إسرائيل على مرتفعات الجولان السورية وأوقف اعتبار المستوطنات الإسرائيلية غير قانونية وضمّنها في اتفاقية التعاون العلمي الأميركية وسمح بوضع عبارة "صُنع في إسرائيل" على بضائعها. واختتم رئاسته بجرّ عديد الدول العربية إلى اتفاقيات تطبيع مع إسرائيل. ولكنه انتهى يتسوّل مباركة هذه الذراع دون جدوى. ف
في مكالمة هاتفية موثقة يعلم نتنياهو، بتوصله لتعهّد مع السودان بأن تطبع علاقاتها بإسرائيل ثم يسأله في استجداء لعبارة مدح تعطف إليه قلب الناخب اليهودي "هل تعتقد أن "جو الناعس" كان بمقدوره إبرام مثل هذا الاتفاق؟" ويقصد منافسه في الانتخابات الأمريكية وقتها والرئيس الحالي جون بايدن. فيجيبه نتنياهو بجفاء "أمر واحد يمكنني أن أقوله لك وهو أننا نقدر المساعدة من أجل السلام من أي فرد في أمريكا". ثم يلتزم الحياد في هذه الانتخابات ويخيّر عدم الإدلاء بأيّ تصريح علني لدعمه. لتسري لاحقا تقارير كثيرة تتحدث عن شعور ترامب العميق بخذلان إسرائيل له.
4 ـ مواقف هشة وأطروحات متهافتة
بيّنٌ أنّ هؤلاء المثقفين قد وقعوا في مصيدة التطبيع، وأنّ أطروحاتهم هشّة. فهل نحتاج أن نعرف إسرائيل أكثر من معرفتنا؟ وهل وجدنا من يُدين الإفادة من منجزاتها العلمية كعلوم الزراعة وتدعيم مردودية بعض المشاتل التي تزدهر في مخابرها وتنشر في المجلات العلمية المحكمة المتاحة للجميع على سبيل المثال؟
فالمدان حقّا هو هذا التعاطي المباشر مع المحتل، ومدّ قنوات التواصل معه بما يكسر حاجز العداء معه ويرفع عنه الحرج ويمهد إلى التسليم في الحقوق والقبول بالأمر الواقع، وينزع عنه صفة الكيان الغاصب للأرض المعادي للقيم الإنسانية ويشجّع على التغاضي عن كونه يجرم في حقّ الإنسانية ويمارس التطهير العرقي وينشر الحقد والكراهية ويمعن في سياسته العنصرية.
أما الاعتقاد بأنّ المقاطعة المطلقة تفتقر إلى الحكمة والاحتجاج بأنّ إسرائيل تتعامل مع العرب بعقلانية، فتسعى إلى ترجمة أدبهم وتحاول استقبال وفودهم وعقد الصلات الرياضية والثقافية معهم، فمردود. فهي لا تفعل ذلك من باب الرغبة في معرفة الآخر كما يعتقدون، وإنما من باب حاجتها إلى الاعتراف. فهي تدرك أنها دولة هجينة مصطنعة تفتقد إلى الأصالة وإلى أسباب استمرار وجودها، وتدرك أنّ التطبيع باب واسع لتأمين استقرارها ولتصفية القضية الفلسطينية.
وبعد: فلا شكّ أنّ خلفيات المبدعين والمثقفين الفكرية تتباين ومنطلقاتهم الحضارية تتباعد، فمنها القطري ومنها الديني ومنها القومي. ولكن على المآل أن يكون واحدا، ذلك العمق الإنساني الذي يدين الاستعمار مطلقا ويفضح إجرام الدولة، أي دولةٍ، ضد الإنسانية ويرفض قيامها على مبادئ الكراهية والتمييز العنصري. وهل الإبداع غير الانتصار إلى إنسانية الإنسان وكرامته؟ فهذا الإنساني ما جعل الائتلاف الوطني للمنظمات المسيحية في فلسطين في يونيو/ جوان2017، يطالب مجلس الكنائس العالمي بضرورة الإقرار بأن إسرائيل دولة فصل عنصري ويذكّرها بالدور الذي لعبه مجلس الكنائس العالمي في مناهضة نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا قائلا "إننا نشعر بالانزعاج لأن الدول والكنائس تتعامل مع إسرائيل كما لو كانت الحالة طبيعية، متجاهلة واقع الاحتلال والتمييز والموت اليومي في البلاد.
ومثلما اتّحدت الكنائس لإنهاء الأبارتهايد في جنوب إفريقيا، واضطلع مجلس الكنائس العالمي بدور نشيط وقيادي وشجاع ومحوري، فإننا نتوقع منكم أن تفعلوا الشيء نفسه". وهذا الإنساني ما يجب أن يكون بوصلة المبدع إذا ما أراد أن يحدد وجهته. وإن كان قدر المغلوب الولع باتباع الغالب، فليتعاطَ مع إعجابه به إيجابيا، وليأخذ بأسباب قوته. وليؤمن بحتمية عودة فلسطينيي الشتات كما آمن مؤسسو إسرائيل بضرورة عودتهم إلى "أرض الرب"، وليحوّل تعاطفه المعلن مع الفلسطينيين إلى فعل يفضح الوجه القبيح لإسرائيل للرأي العام الدولي المضلَّل. فضمن هذا الأفق وحده يمكننا أن نتحدث عن معرفة العدو والاستفادة من بنائه النفسي والذهني أو من تجاربه.