قد يبدو مستغربا موقفي الداعي إلى وجود حركة فتح موحدة متماسكة؛ ذلك أنني لا ألتقي معها لا سياسيا ولا منهجيا ولا فكريا - مع أنها ليست مؤدلجة - ولكن من يعيش في فلسطين وفي الضفة الغربية تحديدا، عليه ألا يتجاهل حقيقة كون "فتح" تدير قطاعات من حياته الشخصية واليومية. هذا في التفكير الضيق، ويضاف إليه أن فتح منذ 1969 تمسك بالقرار الوطني والسياسي الفلسطيني؛ وهذا يعني أن ما يجري داخل فتح وما يصدر عنها يؤثر على مسار القضية الفلسطينية، وصولا إلى حياة من يعيشون في الأراضي المحتلة خاصة الضفة الغربية.
تحت الاحتلال هناك تنافس ونزعات زعامة
علينا استبعاد - لضرورات النقاش والتحليل - المثاليات التي يجري استحضارها؛ من كوننا نعيش تحت الاحتلال الذي يتحكم بتفصيلات حياتنا، ويعمل على تعزيز الاستيطان وتهويد الأرض، وبالتالي لا داعي لهذا التنافس سواء بين الفصائل المختلفة أو بين أطراف وتيارات داخل الفصيل الواحد؛ فإن من عاش تجربة السجون الإسرائيلية، حيث أن إدارة السجن والسجان يمكنهما التحكم بتوقيت قضاء الأسير حاجته وتناوله وجبات طعامه، ويمكن لإدارة السجن نقل الأسير إلى سجن آخر، وإلى قسم آخر وقتما تشاء..
مع كل ذلك هناك تنافس قد يؤدي إلى خصومات ومشاحنات حول من يتولى "منصبا" في السجن، سواء أكان يتعلق بتمثيل المعتقلين أو بموقع هيئة إدارية أو توجيهية للمعتقلين، فكيف بمن هو خارج السجن، ويتمتع بشيء من الحرية، وإن كان سقفها هو ما يحدده ضابط في جيش الاحتلال؟
الشاهد في الموضوع أن لنزعات الزعامة وحب الرئاسة مكانها، وما ينتج عنها من خصومة أو تدابر أو مناكفات أمور متوقعة. وأقول هذا من باب وصف الحال لا تأييده أو الرضى عنه وتقبله نفسيا.. ذلك أن من بدهيات الأشياء تحلل الشعوب الواقعة تحت الاحتلال من أي نزعات كهذه، وإذا كان التدافع سنة الله في الخلق، فليكن في مساره الطبيعي، أي ضد الغاصب المحتل.. ولكن هذا الأسلوب العاطفي الوعظي لم ولا - وغالبا لن - يوقف هذه الظاهرة في الساحة الفلسطينية، فليوفر من يلعب على هذا الوتر جهده ووقته!
نظام التمثيل النسبي زاد الأمور تعقيدا!
صدر مرسوم رئاسي بعد حوارات الفصائل في القاهرة وتفاهمات بين حماس وفتح في إسطنبول، يقضي بإجراء انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني في 22 أيار/ مايو 2021م. وقد وافقت حماس على مطلب فتح القديم- الجديد باعتماد نظام التمثيل النسبي كاملا (سابقا طالبت فتح بأن يكون 70 في المئة من إجمالي المقاعد).
وأود هنا أن أدلي برأي أراه مهما، وهو أن نظام التمثيل النسبي في الدول العالمثالثية ومنها الدول العربية، وخصوصا فلسطين، ليس صالحا وفيه نوع من الإجحاف، حيث أن الناخب العادي تتنازعه عوامل عدة منها الشخصية والنفسية وغيرها، فليترك له اختيار ممثليه مباشرة بالاسم لا القائمة، ولكن هذا ما كان.
وحركة فتح حين أصرت على ذلك وضعت نصب أعينها انتخابات 2006، حيث أن العديد من أعضاء وقيادات الحركة خاضوا الانتخابات مستقلين خارج قوائم الحركة، مما شتت أصوات الناخبين المؤيدين لفتح، حسب تقديرها للموقف، وتسبب في فوز حماس فوزا ساحقا مكنها من تشكيل حكومة وحدها تحظى بأغلبية برلمانية. ولوحظ أن حماس تتقدم على فتح في الدوائر وليس في قائمة التمثيل النسبي (كان نظام الانتخابات مختلطا أغلبه دوائر)، ولذا فإن نظام التمثيل النسبي يضمن لفتح الفوز، أو على الأقل يبعد عنها شبح حيازة حماس أغلبية مقاعد المجلس التشريعي.
ولكن ما جرى خلال الأيام القليلة الماضية جعل حسابات الحقل مغايرة لحسابات البيدر، فبالإضافة إلى قيام تيار محمد دحلان المدعوم من الإمارات بتشكيل قائمة لخوض الانتخابات، وأعضاؤها بالطبع ليسوا من حماس ولا اليسار ولا المستقلين عموما، بل كانوا يوما من فتح و"تجنّحوا" وهذا كان متوقعا، وقعت المفاجأة بتحالف بين الأسير مروان البرغوثي، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، وناصر القدوة الذي تم فصله مؤخرا من الحركة بسبب إصراره على الترشح بقائمة غير القائمة الرسمية للحركة.
وقد ضمت القائمة الجديدة بعض أعضاء المجلس الثوري لحركة فتح مثل زوجة مروان، فدوى البرغوثي، وجمال حويل ورحان دويكات. وحتى كتابة هذه السطور لم تتخذ قيادة حركة فتح أي إجراء ضد هؤلاء بعد تسجيل قائمتهم رسميا مساء الأربعاء (31 آذار/ مارس).. وهذا يعني أن نظام التمثيل النسبي عقّد أمور فتح وزاد من الانقسامات في صفوفها، ولو أن المذكورين ترشحوا كمستقلين (لو كان النظام يسمح) لكان الضرر أقل، بدل تكتلهم واجتماعهم لمنافسة القائمة الرسمية لحركتهم.
هل هذا تكتيك مدروس؟!
حين خرجت أصوات قوية معارضة لاتفاق أوسلو من داخل حركة فتح، إلى درجة مشاركة قيادات منها في مهرجانات نظمتها حماس والجهاد الإسلامي والجبهات رفضا للاتفاق، وفي ظل حالة الاستقطاب الشديد آنذاك، كان هناك تحليل أو وجهة نظر ملخصها أن المعارضة داخل فتح مجرد مناورة وتوزيع أدوار، بهدف احتواء معارضين حقيقيين داخل فتح، ولتمييع وتخدير و"تبهيت" حركات المعارضة وإيقاعها في الأوهام..
ومثل هذا التحليل قد يسحبه بعض المراقبين على الوضع الحالي؛ باعتبار أن قائمة القدوة- البرغوثي هي قائمة فتحاوية في نهاية المطاف، وحين تعلن نتائج الانتخابات ستحسب مقاعدها على حركة فتح. ومما أعطى هذا التحليل وجاهة، تصريحات ناصر القدوة بعد ساعات من تسجيل قائمته بأن القوائم الثلاث (فتح الرسمية وقائمته وقائمة دحلان) هي فتحاوية وأن جميع الأطراف لديها مشكلة مع ما سمّاه "الإسلاموية السياسية"، وهو تصريح أثار وما زال غضبا واستنكارا واستهجانا واسعا، ضم إضافة إلى حماس، حركة الجهاد الإسلامي غير المشاركة في الانتخابات، والجبهة الشعبية رغم خلفيتها الأيديولوجية. وحاول بعض المقربين من القائمة التخفيف من وقع هذا الكلام دون جدوى.
وكلام القدوة كما يبدو يرسل إشارات ورسائل إلى القوى الدولية وأوروبا وأمريكا، ومحاولة للتوحد ضد الخصم السياسي بتصريح يقطر عنصرية وحقدا على مكوّن مركزي من مكونات الشعب الفلسطيني نضاليا واجتماعيا وبالتأكيد ثقافيا.
ولكن هل فعلا هذا تكتيك وخطة متفق عليها داخل تيارات فتح وقواها المختلفة؟ الإجابة هي "كلا". فطبيعة فتح هي العمل العلني الاستعراضي، ومنهج "الأسرار شبه المعلنة" ولو كان في مطبخها وكواليسها مثل هذا، لوجد طريقه إلى التسريب، ومع ذلك فإن مجلسا تشريعيا بهذه الصورة سيكون التحالف الغالب فيه بين القوائم الثلاث واردا ضد كتلة حماس البرلمانية، وهذا حديث سابق لأوانه.
وإضافة إلى ما قام به القدوة والبرغوثي، خرج محتجون في مناطق مختلفة في الضفة الغربية وأعلنوا عن رفضهم لتشكيلة قائمة فتح الرسمية، كما أعلنوا تجميد نشاطهم أو استقالتهم أو الإحجام عن التصويت في الانتخابات، لأن التشكيلة وضعت مرشح منطقة ما في القائمة برقم متأخر غير مضمون الفوز، أو لأن حصة منطقة ما من المرشحين كانت أقل من حجمها. وأطلق هؤلاء النار في الهواء، استكمالا لظاهرة - إطلاق النار في الهواء - مزعجة جدا وباتت خطرا على المجتمع الفلسطيني في مناسبات مختلفة، مع بيانات منشورة على فيسبوك صادرة عن مواقع تنظيمية فتحاوية مختلفة في الضفة الغربية، مما جعل المناطقية والجهوية تبرز، وهي التي كان الرهان على أنها ستنحسر في ظل نظام التمثيل النسبي. وأعلن بعض المرشحين في القائمة الرئيسية عن انسحابهم لأن أرقامهم متأخرة، أي فوزهم بعيد أو محال.
القيادة قطارها يسير.. هل هذه المرة مختلفة؟!
من خلال مراقبة ودراسة لحالة فتح سواء أيام قيادة "أبو عمار" أو "أبو مازن"، فإنها دوما كانت تستطيع تمرير ما تريد وقطارها يجتاز العقبات المتعلقة بحالات "الحرد" أو المعارضة من هذا الكادر أو ذاك القيادي مهما كان حجمه وتاريخه، ولو بعد حين. فالضجيج والاحتجاج وحتى لو اتخذ طابعا فيه نوع من العنف، لا يغير مسارا أو قرارا اتخذته القيادة، خاصة إذا كان القرار مدعوما دوليا أو إقليميا، وكان الطابع الغالب على المعترضين/ الحردانين هو الاحتجاج على فوات مكسب شخصي، ولو غلّف هذا بخطاب سياسي أو ثوري عاطفي.. ولكن هل هذه المرة الأمر جدّ مختلف؟ في مرات سابقة قيل "هذه المرة مختلفة".. ولكن تبدو قيادة فتح واثقة من قدرتها على اجتياز موجة الحرد الحالية، كما تجاوزت غيرها في مراحل سابقة.
على كل حال يحتاج الأمر إلى مزيد من المناقشة لجوانب أخرى لما يجري من تفاعلات داخل "فتح" وخارجها، وهذا في مقال أو مقالات قادمة بمشيئة الله تعالى.