أعاد الاتفاق الذي وقعه رئيس مجلس السيادة السوداني مع زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان، جدلا فكريا عن علاقة الدين بالدولة التي لطالما كانت القضية ذات الحساسية العالية في السياسة السودانية، لارتباطها في أذهان العامة بهوية الدولة، فضلا عن اعتبارها ذات صلة بثوابت وشعارات دينية وأيدولوجيات سياسية بين الحكومة والمعارضة..
فقد نص إعلان مبادئ جرت مراسم توقيعه في جوبا، عاصمة جنوب السودان، بحضور رئيسه سلفاكير ميارديت على "تأسيس دولة مدنية ديمقراطية فيدرالية في السودان تضمن حرية الدين والممارسات الدينية والعبادات لكل الشعب".
كما جاء في الاتفاق الذي اطلعت عليه، "عربي21"، "أن لا تفرض الدولة دينا على أي شخص وتكون الدولة غير منحازة فيما يخص الشؤون الدينية وشئون المعتقد والضمير كما تكفل الدولة وتحمي حرية الدين والممارسات الدينية، على أن تضمن هذه المبادئ في الدستور".
وأعتبرت الحركة الشعبية التي يقودها عبد العزيز الحلو أن الاتفاق يستجيب لمطلب الحركة الرئيسي في الإقرار بـ "علمانية الدولة"، بينما نص ذات الاتفاق في بند آخر على عدم المساس بالقوانين المستمدة من الشريعة الإسلامية، لكن الجدل الفكري ما يزال مستمرا حول علاقة الدين بالدولة، وازدادت حدة النقاشات بين الداعين إلى دولة إسلامية حديثة وديمقراطية وبين دعاة العلمانية الذين لا يرون أي ديمقراطية ونظام مدني دون علمانية، ويحدث كل ذلك في ظل تساؤلات عديدة حول مشروعية أطراف السلطة الانتقالية في حسم مثل هذه القضايا، ومدى استجابة النظام الانتقالي لمطلب السلام مع القوى التي تحمل السلاح في إطار سياسي وفقا لما نصت عليه الوثيقة الدستورية المعمول بها خلال الفترة الانتقالية.
بالنسبة للمنظر السياسي وعضو التفاوض عن جانب الحركة الشعبية الدكتور محمد جلال هاشم فإن اتفاق المبادئ عمليا يجب كل ما قبله من اتفاقيات، ورأى خلال حديثه في مقطع فيديو اطلعت عليه "عربي21" أن الفترة الانتقالية ليست تلك المنصوص عليها في الوثيقة الدستورية التي تم إجراء تعديل عليها بعد اتفاق جوبا للسلام الذي شمل الجبهة الثورية بمكوناتها التي كانت تحمل السلاح ما عدا الحركة الشعبية بقيادة عبد العزيز الحلو وحركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور.
بيد أن القضية التي حازت على انتباه كافة القوى السياسية والمثقفين وفي السودان، هي المتعلقة بعلاقة الدين بالدولة التي تناولها اتفاق المبادئ الموقع بين رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان ورئيس الحركة الشعبية عبد العزيز الحلو.
ولما كانت قضية الدين بالدولة مرتبطة بموضوعين مركزيين في الساحة السياسية، فإن القضية أخذت منحى الجدل الفكري حول العلاقة بقضيتي السلام والتحول الديمقراطي الذي يفترض أنهما من مهام السلطة الانتقالية الحالية.
في هذا الجدل، قالت هيئة شؤون الانصار المعنية بالفكر الفكر الاسلامي والرافد الديني لحزب الأمة القومي بزعامة الراحل الصادق المهدي، إن (إتفاق البرهان الحلو) حول علاقة الدين بالدولة؛ محله المؤتمر القومي الدستوري، وأن الاعتراف بالتنوع وإدارته بالعدل؛ يوجب مشاركة جميع مكونات المجتمع السوداني في تحديد هويتهم، وأن ضبط علاقة الدين بالدولة قضية تهم كل السودانيين ولا يقرر فيها فصيل واحد دون الآخرين.
وأوضحت الهيئة في بيان تلقت "عربي21" نسخة منه أن الدين الإسلامي لا يقر الإكراه، ولا يفرض شعائره وأحكامه على غير المؤمنين به، وبنفس القدر لا يقبل أن تُفْرَضَ على المؤمنين به مفاهيم وأحكاما تتصادم مع عقيدتهم وقيمهم وتسلبهم حقهم الديني والثقافي والتشريعي. كما أن شعار الثورة التي اطاحت بحكم الرئيس البشير يقتضي إدارة التنوع بالعدل والانصاف، واحترام حقوق الإنسان، ومنها حق الاعتقاد والتشريع وتحديد الهوية دون وصاية أو إكراه.
بالنسبة للأستاذ المشارك في برنامج التأريخ بكلية الآداب والعلوم في جامعة قطر البروفسور طارق أحمد عثمان فإن مخاوف العقل التنظيمي للإسلاميين من "علمنة الدولة" غير مبررة، إذا نظرنا إلى أن مفهوم العلمانية هو العلم ورفض الخرافة وعدم القبول بالوهم، وهي قيم مقبولة لدى المسلمين، وليس هنالك تعارض للتحديث في قيم الاسلام، لأن الاسلام صالح لكل مكان وزمان، والاسلام متجدد وشمل مفاهيم الديموقراطية الحديثة.
لكن عثمان يشير في حديث مع
"عربي21" إلى أن مسألة العلمانية بمعنى فصل الدين عن الدولة، فإن المحك الحاسم فيها هو آلية التصويت في العملية الانتخابية الديمقراطية، وهو يرى أن الشريعة هي مقاصد وليس فقط حدودا، وأول مقصد هو تحقيق العدالة للناس، وليست مجرد قوانين، معتبرا أن ربط الإسلام بالحدود فقط فيه إساءة كبيرة للإسلام.
وحسب تشخيص الدكتور عثمان، فإن الشباب الثائر في السودان يطمح إلى تجربة جديدة، ونموذج ديمقراطي لن يتوفر في السودان بكامله قريبا، ولكنهم سيجدون متنفسا، للتعبير عن التنوع، لأن السلطة السياسية السابقة أعادت البلاد إلى الماضي على مستوى القبول بالآخر.
واعتبر أنه في حال أصبح الأمر واقعا، قد يغيروا بعض القوانين التي سنها بعض الإسلاميين المهوووسين، لكن المجتمع ليس ممكنا علمنته، وربما تظهر تيارات تغير القوانين للمصلحة الفئوية، وتحدث تغييرات كما حصل في دول إسلامية مثل المغرب وغيرها، كالتوقيع بدون تحفظات أو بتحفظات على اتفاقية القضاء على جميع أشكال العنف ضد المرأة وتعرف اختصارا بـ (سيداو)، بيد أن الدكتور طارق يستبعد علمنة الدولة بعدم اعتماد الشريعة في مصدر التشريع، لأن ذلك سيكون انتحارا سياسيا لتيار العلمانية، خصوصا في دولة مثل السودان نامية.
أما رؤية الإخوان المسلمين في قضية علاقة الدين بالدولة في السودان، فقد عبر عنها المراقب العام للإخوان المسلمين بالسودان الدكتور عوض الله حسن سيد قائلا لـ
"عربي21" إن السودان لم يجمع شتاته إلا الدين ومؤسسة (المسيد) الباذخة في تاريخنا التي جمعت السودانيين على اختلاف ألوانهم وألسنتهم وأعراقهم من الشواهد التي لا تخطئها عين، وأن من يبشر بـ (العلمانية) سيهزم في أول استحقاق انتخابي.
ورأى سيد أن من يؤيد خطوة (البرهان والحلو) فهو ساقط في شعارات السلمية في العملية السياسية وساقط في طبيعة المرحلة الانتقالية وساقط في الحديث عن حق الناس في الاختيار وفي حاكمية التفويض الشعبي ثم هو ساقط في رفض الانقلابات فما الانقلاب غير محاولة فرض الاختيارات بالقوة.
لكن الباحث وعضو نادي الفلسفة في جامعة النيلين محمد يحيى يقول لـ
"عربي21": إن الموقف الذي يطرحه يتجه نحو أن العلمانية شرط ضروري للديمقراطية وإن لم يكن كافيا، بمعني آخر النظام اللاعلماني هو نظام غير ديمقراطي بالضرورة، ولا يصح العكس إذ بعض الأنظمة العلمانية هي أنظمة غير ديمقراطية، لكن إن وجدت طبقة كطبقة الإكليروس أم لم توجد فإن لا علمانية النظام لا يمكن أن تتولد عنها في أفضل حال سوى ديمقراطية صورية، ولذلك يمكن للديمقراطية أن تتأسس في مجتمع إسلامي كما تأسست في مجتمعات أخرى أكانت مجتمعات مسيحية أو هندوسية أو بوذية، لكنها لا تتأسس مع الإسلام السياسي ولا يمكن لها أن تزدهر وتنمو في ظل هذا النظام الذي يتخذ من الدين (أي دين) أساسا له، وهذا بعكس ما صوره لنا المفكر المغربي (محمد عابد الجابري) بأن العلمانية (مشكلة مصطنعة) ذلك أن أي إنسان حريص علي إقامة نظام ديمقراطي سليم لا يمكن له أن يستبعد العلمانية خصوصاً وأن فكرة كون الإسلام دين ودولة مازالت فكرة حية في أذهان الكثيرين، وما زال مطلب إقامة دولة إسلامية مطلبا أساسيآ لحركات شتى لا يستهان بقوتها.
ويرى يحيى بأنه لا يمكن لنظام سياسي ديمقراطي أن يجد له فضاء صحي في الدولة الدينية (اللاعلمانية) مسيحية كانت أم إسلاميه لأن الدوله الدينية بطبيعتها تميل لأن تكون دولة (كليانية) توتاليتارية شمولية، وبما أن الغرض الأساسي للإسلام السياسي هو إقامة دولة إسلامية أي (دولة دينية) إذن لا يوجد أي أمل في ان تكون الديمقراطية سمة للنظام السياسي لهذه الدولة.
وحسب يحيى فإن الدولة الدينية هي مثل الدولة الكليانية، فكلاهما ينزعان نحو الشمولية وهذا بدوره يحدث ممانعة نحو قيام نظام ديمقراطي جوهري وليس شكلاني ذلك لأن الديمقراطية لها مستلزمات أساسية مثل شرط عدم استئثار أي فرد أو جماعة بالسلطة أي أن تكون الإرادة الشعبية هي وحدها مصدرا، وشرط تكافؤ فرص العمل السياسي مما يستوجب حياد الدولة إزاء الإيديولوجيات المتصارعة في الفضاء العمومي وشرط إعطاء أي مواطن الحد الأعلى من الحرية الذي يتفق مع إعطاء حرية مماثلة لكل مواطن سواه وعدم حرمان أي فرد يدخل في معدودية الدولة من حق المواطنة على أساس تعسفي وشرط التعاون، وبالتالي تأمين الأجواء المناسبة للحوار السياسي بين مختلف الفئات وضمان الاحترام المتبادل.
ووفقا ليحيى فإن العلمانية ضرورية لأن الاعتقاد بقدرة العقل الإنساني على أن يدير شؤونه الدنيوية، لا يتم إلا من خلال ترسيخ فكرة أن الإنسان مستقل، من حيث أنه كائن عاقل (أي استقلالية العقل) واستقلاله من حيث أنه كائن وفاعل أخلاقي، وبذلك تبدو العلمانية كشرط ضروري للديمقراطية وإن لم تكن كافية، فالسمة الأساسية للعلمانية باختصار هي: المبدأ الذي يقضي بإعطاء الأولوية للعقل في كل ما له علاقة بالشؤون الدنيوية.