كلاهما ينتميان إلى القائمة الخالدة لجائزة نوبل في الآداب. انضمّ إليها الروائي البيروفي ماريو بارغاس يوسا عام 2010. وسبقه إليها الروائي التركي أورهان باموك عام 2006. وكلاهما يُتوقّع منه أن يضيف شيئاً مهماً وفريداً حين يتحدّث عن أكثر الفنون السردية جمالاً وتأثيراً في العصر الحديث.
في عام 1997 بسط يوسا نظريته في الرواية، في مجموعة من المقالات النقدية، مستنداً إلى تجربته الشخصية الطويلة في القراءة والكتابة.
وصدرت المقالات في كتاب بعنوان حمل دلالة أبوية مستحقَّة من روائي كبير، والعنوان هو "رسائل إلى روائي شاب". وصدر الكتاب بالعربية عام 2005، عن دار المدى، بترجمة صالح علماني.
وفي عام 2009، ألقى باموك مجموعة من المحاضرات في جامعة هارفارد عن صنعته الروائية، وعن العلاقة الجدلية بين كاتب الرواية وقارئها.
وصدرت المحاضرات في كتاب جامع بعنوان (The Naive and the Sentimental Novelist). وصدرت بالعربية عن دار الجمل عام 2015، بترجمة رديئة لا تتناسب وسمعة الناشر الطيبة، تحت عنوان "الروائي الساذج والحساس".
يتفق الروائيان على وجود دافع نفسي خاص وراء الكتابة الروائية، يحثّ الروائي على الانخراط في الصنعة الروائية دون غيرها.
هذا الدافع يسميه يوسا "الميل الفطري"، وهو نقطة الانطلاق الغامضة والضرورية التي تحدو الروائي. ويسميها باموك "الموهبة الطبيعية"، وهي الدافع التلقائي غير المدرك لدقائق الصنعة برغم اتقانه لها.
إلا أنهما يختلفان اختلافاً كبيراً في تقدير قيمة الميل الفطري، أو الموهبة الطبيعية، فمن وجهة نظر باموك يجب الفصل بين الروائيين أصحاب الموهبة النقية العفوية، الذين "يكتبون رواياتهم بسهولة، ومن دون قلق حول مشاكل الأسلوب والأداء الفني"، والروائيين الذين يكتبون رويات قائمة على "التأمل العقلي والتعقيد الفني".
اقرأ أيضا: "موراكامي" الروائي يغتال موراكامي القاص
أما يوسا فيرى أن الميل الفطري لا يكفي لكتابة أعمال أدبية عظيمة، ما لم تعززه مشيئة عقلانية منضبطة ومثابرة، تردم الهوّة بين الذهن المجبول على التخيّل وممارسة الأدب.
وهذه الهوّة لا يتمكن من تجاوزها إلا الكتاب المجتهدون في امتلاك أدوات الكتابة اللازمة لتجسيد الخيال في بنية عمل أدبي. ولا يقدّم عبور الهوة ضماناً لجودة العمل الأدبي، بل هو أولى الخطوات في طريق طويلة وعرة.
استعار باموك تسمية "الروائي الساذج" و"الروائي الحساس"، من مقالة للشاعر الألماني "شيلر" ( 1759- 1805)، فأطلق الوصف الأول على الروائيين الذين "يكتبون بعفوية، ولا يدركون الأساليب التي يستخدمونها، كأنهم يقومون بعمل طبيعي تماماً، بلا وعي للعمليات والحسابات التي ينفذونها في رأسهم، ولا يشغلون أنفسهم بالجوانب الفنية لكتابة رواية".
ويطلق الوصف الثاني على الروائيين القلقين "المفتونون بصنع النص وبعجزه عن تحقيق الواقع، والذين يولون اهتماماً كبيراً للأساليب التي يستخدمونها في كتابة الروايات".
لا يتجاهل باموك الفارق الزمني الكبير بين عصر "شيلر" وعصرنا الحالي فحسب، بل يتجاهل ما لا يمكن تجاهله عند الحديث عن الموهبة والصنعة في الأدب، وهو أن التفريق بينهما معقول في الشعر والرسم والموسيقى، ولكنه يفقد معناه عند الحديث عن كتابة الرواية.
وعلى الرغم من أن باموك ينسب فكرته إلى مقالة "شيلر" المعنونة "عن الشعر الساذج والحساس"، إلا أنه يتجاهل ميدانها وموضوعها، وهو الشعر، وينقلها إلى ميدان آخر وموضوع مختلف، وهو الرواية.
يتكرر في التراث النقدي وصف "الشاعر المطبوع"، وهو الشاعر الذاتي العاطفي، الذي يستقي مادته الشعرية من بيئته الطبيعية، من دون دراسة ودراية، ولا يفصل نفسه عن العالم بفاصل الذات عن موضوعها.
وفي الرسم نوع يطلق عليه "الرسم الفطري"، وهو إلى رسوم الأطفال أقرب، ويحاكي في أبعاده وجمالياته الرسوم البدائية على جدران الكهوف.
وفي الموسيقى أشكال كثيرة من الأنغام الفلكلورية الإيقاعية المرتبطة بشعائر وطقوس جماعية، لكنها ليست موسيقى بالمعنى القصدي والتجريدي.
أما الرواية فهي فنّ غير مطبوع، ولا يمكن أن يكون فطرياً، ولا مجال للسذاجة فيه. وإن جاز للشاعر والرسام والموسيقي الفطري أن يكون أمّياً، فإن ذلك لا يمكن أن يجوز على الروائي.
الشاعر يمكن أن يكون مطبوعاً، ويمكن أن يكون حساساً، على حد تعبير "شيلر". ويمكن أن يكون مطبوعاً وحساساً معاً، فيجمع الصنعة إلى الموهبة، فيرتقي إلى مرتبة الشعراء العظام.
أما الروائي فقد عبّر "يوسا" عن طبيعة دوره النقدي تجاه الواقع، الذي يتطلّب منه ثقافة عالية ومركبة ليعبّر من خلال روايته عن "رفضه وانتقاده للحياة، كما هي عليه، أي للعالم الواقعي، ويعرب عن رغبته باستبدالها بتلك الحياة التي يصطنعها بمخيلته ورغباته".
لم يعد ممكناً الحديث عن السذاجة في الأدب المعاصر، فقد راكمت الأشكال الأدبية طبقات من الخبرات وصولاً إلى الوعي النوعي الذي لا يسمح للكاتب، شاعراً كان أم روائياً، بمخاطبة تعقيدات الحياة العصرية، إلا من خلال وعي كامل بشروط الشكل الفني.
باموك ليس ساذجاً، برغم بذله جهداً نظرياً كبيراً في الدفاع حصة الرواية من السذاجة بوصفها نوعاً من الحس الفني الأصيل الذي يمكّن الروائي من الإندماج مع شخصيات روايته.
وهو يلتقي في مقدمات محاضراته مع معظم أفكار يوسا في رسائله، خصوصاً فكرة الخيال الروائي، لكنه سرعان ما يفترق عنها في الخلاصات.
"الميل إلى التخيّل"، بحسب باموك ويوسا، يصاحب الروائي منذ الطفولة، وبناء الرواية لا يعدو أن يكون نوعاً من اللعب.
لكنه عند يوسا يصدر عن استياء شديد من الحياة الواقعية، ومن "محدوديتها ونقائصها"، ولذلك تصبح الرواية لعبة خطرة وهدامة.
أما الخيال في اللعبة الروائية عند باموك، فهو نوع من "الإندماج الطفولي" مع الحياة المتخيَّلة، ولا يرتقي إلى درجة الهدم والإحلال، لأن الجانب الحساس من الروائي يظل منفصلاً الجانب الساذج، ومسيطراً عليه، ومدركاً لخدعة الإبداع الروائي.
يحسم يوسا سريعاً سؤال الموهبة والصنعة في الكتابة الروائية، ويتجاوزه إلى ما هو جوهري وأكثر أهمية في الرواية، وهو دورها في تذويب الحدود بين المتخيّل والواقعي، وخلق "حياة أخرى من دونها تصبح الحياة الحقيقية أشدّ دناءة وفقراً مما هي عليه".
تنهض فكرة يوسا على فهم قاطع للرواية، مفاده أن الرواية إن لم تكن شكلاً معقداً يضاهي الواقع ببنية متخيلة لا تقلّ عنه صلابة وتماسكاً، فإنها لا تحقق شرطها التجنيسي، ولا تستحق شرف الانتماء إلى السلالة الملكية المتوّجة على عرش الأدب المعاصر.
أما باموك فيظل يروح ويجيء بين حدّ السذاجة والحساسية، مشغولاً بحصة كل منهما من كتابته "سيد باموك، هل أنت روائي حساس أم ساذج؟".
ألا تهمك صحة قلبي؟ عن شعر الحب في الأدب الفرعوني