المناضلون في مسارات القضية
الفلسطينية، لا سيما هؤلاء الذين امتلكوا صفات خاصة، وأثّروا في محيطهم بسمات فريدة هي ألصق بطبائع الصراع واحتياجاته، وكانت لهم اختيارات شخصية تفيض بالدلالات على الالتحام بالقضية، ينبغي الكشف عن مناقبهم، وأدوارهم، وإضافاتهم، إذ ذلك جزء من الحديث عن القضية الفلسطينية بكلّ ما يتفرع عنها، وإن كانت مثل هذه المقالة لن تكون كافية لموضوع كهذا، يتناول هذه المرّة شخص
الدكتور أكرم الخروبي رحمه الله تعالى، الذي شُيّع الجمعة الماضية من مسجد العين بمدينة البيرة، بعد إصابته بمرض السرطان.
تخرّج الدكتور أكرم الخروبي من الولايات المتحدة الأمريكية، بشهادة عليا في الكيمياء الحيوية، وقد ساهم قبل عودته إلى فلسطين في تأسيس العديد من المناشط الإسلامية هناك، سواء في سياقات العمل الجماعي، بتأسيس المراكز الإسلامية، أو الاتصال الوثيق بحركة
حماس، أو في سياقات الدعوة الفردية. وإذا كان بقاؤه في الولايات المتحدة خصوصا، وخارج فلسطين عموماً، يعني غالباً ضمان مستقبل مهني وماديّ عريض، فإنّ عودته إلى فلسطين قد لا تكون فريدة بملاحظة غيره ممن أصرّ على البقاء فيها، أو العودة إليها، بالرغم من ضيق الحياة فيها بالنسبة لمواهبم والفرص التي قد تتاح لهم خارجها، فإنّ هذه العودة ستغدو فريدة حين ملاحظة أدواره التالية في فلسطين.
أدار الدكتور، بعد عودته، كلية المهن الصحية التابعة لجامعة القدس، وفي الوقت نفسه ترأس حركة حماس في الضفّة الغربية، في ظرف بالغ الحرج، كانت فيه رياح الحيرة والواقع الجديد تعصف بالحركة، بعد تأسيس السلطة الفلسطينية، ودخولها مراكز المدن في الضفّة الغربية. فقد باتت السلطة واقعا يتمدّد على نحو لم تكن تتخيله أوساط واسعة في حماس، والتي لم تنظر للسلطة بوصفها نتاجا شرعيّا أو طبيعيّا، وهو ما دفعها في آخر الأمر للامتناع عن الدخول في السلطة، والتي افتتحت، بدورها، عهدها منذ دخولها قطاع غزّة بالصدام مع حماس.
ذلك كلّه بعض من الظروف القاسية، والمشحونة بالتوتّر، التي قاد فيها الدكتور أكرم الخروبي حماس في الضفّة الغربية
الموقف من السلطة الذي تردّد بين آراء متعدّدة، ومتناقضة أحيانا، بين قيادات حماس ومواقعها الجغرافية ومراكز القوّة فيها، وحملات السلطة على الحركة، واستشهاد يحيى عياش، بما تبعه من عمليات ثأر عزّزت من حملة السلطة على الحركة، والتي تفاقمت بعد استشهاد مجموعة من قيادات الحركة العسكريين (محيي الدين الشريف، وعادل عوض الله وأخيه عماد)، وما تلا ذلك من إمساك الاحتلال بمراسلات الشهيد عادل عوض الله، بما فيها من خيوط اتصال بالجهاز الإداري للحركة في الضفة.. ذلك كلّه بعض من الظروف القاسية، والمشحونة بالتوتّر، التي قاد فيها الدكتور أكرم الخروبي حماس في الضفّة الغربية.
خلال هذه الفترة، لم يكن أحد من كوادر الحركة وقياداتها يعرف الموقع القيادي للدكتور أكرم الخروبي، بل ولا حتى مجرد علاقته بالحركة وصلته بها، باستثناء المجموعة القليلة التي كانت تعمل معه، فأكثر كوادر الحركة وقياداتها تسامعوا به، بعد اعتقاله في العام 1999، بعد أن قادت الضربات المتواصلة، والتفكيك المعقّد للخيوط، منذ استشهاد عادل عوض الله، إلى اعتقاله، ثم الحكم عليه باثنتي عشرة سنة، قضى منها عشر سنوات داخل المعتقل.
هو أحد قيادات الحركة قبل عودته إلى فلسطين، ولكنّه أتقن ما يستلزمه العمل من الخفاء
لا يعني ذلك أن الدكتور جاء من الفراغ، بل هو أحد قيادات الحركة قبل عودته إلى فلسطين، ولكنّه أتقن ما يستلزمه العمل من الخفاء، إلى درجة أن نشطاء الكتلة الإسلامية، الذراع الطلابية لحركة حماس في الكلية التي كان يديرها الدكتور، لم يلمسوا منه تعاطفا يشي بعلاقته بالحركة، وإذا كان العمل قد يفرض على صاحبه اختيارات من هذا النوع من التخفّي المطبق، فإنّ سمات الدكتور التي لاحظها عارفوه فيما بعد في السجن، كشفت عن نكران كامل للذات، وتجسيد مبهر لمفهوم الإخلاص، والذوبان في القضية التي جاء لأجلها الدكتور.
ثمّة الكثير مما يمكن قوله عن الدكتور، الذي كثيرا ما كان يُنتَخَب أميرا عامّا في السجن الذي يوجد فيه، من عبادة، وذكر، وتواضع، وخدمة، وإصرار على مشاركته المعتقلين الأعمال اليومية المعيشية في السجن، كأعمال التنظيف التي تعفيه منها، بحكم السنّ، اللوائح الداخلية لتنظيمه في السجن. كما يمكن قول الكثير عنه، بعد خروجه من السجن، سواء في تواضعه، أو مشاركته إخوانه، أو صدقته في الخفاء، أو برّه بأهله، أو صبره على مرضه، أو على صمته إزاء تاريخه القيادي والنضالي، ولكنّه كان قائدا حقيقيّا.
كان يمكن تلمس سماته القيادية في الأفكار التي يطرحها، وتحليله السياسي الدقيق، وقدرته العالية على التقييم، ونكتته الحاضرة، وطريقته المحببة في الاقتراب من إخوانه، وما يبديه من معرفة بهم، بالرغم من أنّ اللقاء قد يكون هو الأوّل، وهذا يعني أنّ ثمّة سمات قيادية كان يطوي عليها الدكتور، تناسب ضرورات المرحلة التي عمل بها، وتناسب القيادة عموما. لا يعني ذلك أن الدكتور يفتقد للكارزيما، ولكنها من غير الكاريزما الطاغية التي يتصف بها عادة النرجسيون.
القائد هنا جزء من فريق، وهو قائد كفؤ وقوي، وإلا لاستحال تواضعه إلى ضعف، ولم يكن الدكتور أكرم رحمه الله، ضعيفاً، بل كان قويّاً بكفاءته وبفريقه
القيادات الأكثر إنجازا، بحسب بعض الدراسات الحديثة، هي الأكثر تحفظا وهدوءا وعزوفا عن الظهور، والتي قد لا تميزها عن محيطها، ولكنها في الداخل صاحبة عزيمة قوية، وقد تتسم بالطموح والتنافسية، ولكن بتواضع، وهو ما يجعلها أكثر إدراكاً للصعوبات، وأكثر تحفّطا في إطلاق الوعود، وفي إنفاق الموارد، ومن النوع الذي يستمع للنقد ويقرّ بالأخطاء، ويملك استعدادا فطريّا لطلب المشورة، والاستثمار في الطاقات والكفاءات المحيطة، بما في ذلك من هم دونهم في المسؤولية، وهو ما يخلق بيئة غير متمركزة حول الشخص، ومن ثمّ قابلة للتطوّر والتجدد باستمرار، وخلق بدائل قيادية حقيقية، أخذت فرصتها في العمل وإبداء الرأي دون الذوبان في ظلّ القائد الكاريزماتي.
يلخّص بعض الدارسين لطبيعة
التواضع لهذا النوع من
الشخصيات القيادية، بأنّها تتسم بثلاث سمات أساسية، الأولى؛ رؤية النفس بموضوعية بلا تضخم واعتبار آراء الآخرين في تقدير الذات، والثانية؛ تقدير كفاءة الآخرين والسعي لتوظيف مساهماتهم في العمل وإدراك إضافاتهم المحتملة، والثالثة؛ الانفتاح على الآراء الأخرى. فالقائد هنا جزء من فريق، وهو قائد كفؤ وقوي، وإلا لاستحال تواضعه إلى ضعف، ولم يكن الدكتور أكرم رحمه الله، ضعيفاً، بل كان قويّاً بكفاءته وبفريقه.
twitter.com/sariorabi