درج الكاتب والباحث الإسلامي السوداني، الشيخ الصوفي النيّل أبو قرون في العديد من كتبه على تناول قضايا دينية شائكة، ومناقشة إشكاليات معرفية وفكرية بجرأة بالغة، وعادة ما تكون مقارباته البحثية مغايرة للمفاهيم السائدة والمقررة، وهو ما يعرضه لانتقادات قاسية وشديدة، ويجره إلى محاكمات دينية صارمة على خلفية اتهامه باتهامات جارحة، كالتشيع والطعن في الصحابة والزندقة والردة، ويثير عليه ردود فعل ساخطة.
في كتابه الأخير "انقلاب المسلمين على رسالة خاتم النبيين" والصادر حديثا بالتعاون ما بين مؤسسة أونيكس للتواصل الفكري في بريطانيا، والمؤسسة العربية للدراسات والنشر في عمّان وبيروت، اقتحم ميدانا شائكا، شديد الوعوة، حيث أدار فكرته المركزية على الكشف عن مظاهر وصور انقلاب المسلمين على رسالة خاتم النبيين.
أوضح الشيخ أبو قرون في حواره مع "عربي21" أن عنوان كتابه "مأخوذ من قوله تعالى "وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ" [آل عمران:144] متسائلا: "فهل بعد قول الله تعالى بهذا (الانقلاب) أيّ قول؟ فهو هنا يخاطب من كانوا حول الرسول عليه الصلاة والسلام، وكيف سينقلبون بعد رحيله..".
وبيّن أن المقصود بالذين انقلبوا على رسالة خاتم النبيين بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى أنهم "قاموا بتحويل وجهة الدين من دعوة للناس كافّة، دون حدود جغرافية، أو كيان سياسي مصطنع إلى دولة محدودة، ادّعت احتكار (الإسلام)، وبدء مرحلة الإجبار والقسر على الدخول فيه، وأن الخليفة فيها يمثّل رسول الله، مع أن الرسول العظيم لم يوصِ لمن بعده بخلافة سياسية باسم الله، بل أوصى فقط بمرجعية دينية".
ولخص الشيخ أبو قرون رؤيته المركزية التي أودعها في كتابه مبينا أن الانقلاب الذي حدث بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام إنما كان "بتحول الدين من دعوة إلى الأخلاق وحرية المعتقد، موجهة للعالم بأسره، إلى خلافة سياسية ودولة تسلطيّة تسعى لإخضاع الآخرين لها عبر الحروب "باسم الله"، وهو انقلاب بدأ في (السقيفة)، ولم تنته آثاره إلى يومنا هذا".
"عربي21" حاورت الشيخ أبو قرون حول الأفكار الواردة في كتابه الأخير، بكل ما فيها من اتهامية لعموم الممارسة الإسلامية منذ عصر الصحابة إلى يوم المسلمين هذا، ومدى استقلالية الشيخ في فكرة كتابه المركزية أم أنه استمدها من أطروحة الشيخ الأزهري علي عبد الرازق في كتابه (الإسلام وأصول الحكم)، فهي لا تعدو أن تكون إعادة إنتاج لها، إضافة لرؤيته المتمثلة في قصر الدعوة الإسلامية على الجانب الروحي، وتجريدها من البعد السياسي.
وفي ما يلي نص الجزء الأول من المقابلة مع الشيخ النيّل أبو قرون:
س ـ يبدو عنوان كتابك الأخير "انقلاب المسلمين على رسالة خاتم النبيين" صادماً واتهاميا لعموم الممارسة الإسلامية منذ وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام وإلى يومنا هذا.. بداية ما الذي أردت قوله في هذا الكتاب بنقاط واضحة ومحدّدة؟
ـ لا يمكن اختصار كتاب كامل وشامل في عنوانه فقط، وإنّما ينبغي التريّث قليلاً مع قراءة هادئة ومتعمّقة في فصوله كلها، وبعدها يصبح العنوان جليّاً لكلّ باحث عن الحقّ، وغير صادم أو اتهامي، ومع ذلك فإنّ هذا العنوان مأخوذ من قوله تعالى "وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ" [آل عمران ]144، فهل بعد قول الله تعالى بهذا "الانقلاب" أيّ قول؟! فهو هنا يخاطب من كانوا حول الرسول الكريم صلى الله وبارك عليه ووالديه وآله، وكيف سينقلبون على أعقابهم بعد رحيله، فهل كلام الله تعالى يرتبطُ بظرف محدّد، أم هو مطلق وعابر للزمان والمكان، لا يحدّه سبب للنزول، ولا حادثة للتأويل؟
فالذي جرى حقيقة أنّ المسلمين، وهنا المقصود من انقلبوا على رسالة خاتم النبيين بعد انتقاله، قاموا بتحويل وجهة الدين، من دعوة للناس كافّة، دون حدود جغرافية، أو كيان سياسي مصطنع، إلى دولة محدودة، ادّعت احتكار "الإسلام"، وبدء مرحلة الإجبار والقسر على الدخول فيه، وأنّ الخليفة فيها يمثّل رسول الله، مع أنّ الرسول العظيم لم يوص لمن بعده بخلافة سياسية باسم الله، بل أوصى فقط بمرجعية دينية، وبالتالي فإنّ ما تمّ في الحقيقة هو انقلاب على رسالة الإسلام الحقيقية، فالله لم يرسل وزراء ورؤساء دول بل أرسل أنبياء ورسلاً لهداية البشر ولصالح الأخلاق وحسن التعامل بين البشر، على أنّه يمكن للمسلمين أن يتّفقوا بينهم على من يحكمهم، ويقيم العدل فيهم، فالخليفة الأول في الحقيقة هو "خليفة للمسلمين"، وليس "خليفة رسول الله"، لأنّ الأنبياء لا أحد يخلفهم، فالتكليف الإلهي خاصّ بهم، وينتهي بانتقالهم.
هذه إشارة مبتسرة إلى أحد فصول الكتاب، ولا يمكن بالطبع في حوار صحفي كهذا استعراض بقية فصول الكتاب التي تناولت مسائل عديدة، ومراجعات جوهرية في الفكر الإسلامي الذي وصلنا، بل كما أشرت يمكن للراغب في الاستزادة قراءة الكتاب بتمعّن فصلاً بعد آخر.
س ـ حينما تحدّد بداية وقوع الانقلاب على رسالة خاتم النبيين المتمثل ـ وفق رأيك ـ بتحويل الدين من دعوة إلى الأخلاق وحرية المعتقد إلى خلافة سياسية ودولة تسلطية بما جرى في سقيفة بني ساعدة، فإنّ ذلك يعني أنك توجه اتهامك الصريح والمباشر للصحابة في مواقعة ذلك المحظور، ألا يتضمن ذلك الاتهام مخالفتك لما تقرر في القرآن الكريم من مدح الصحابة والثناء عليهم والرضا الإلهي عنهم؟
هناك فصل كامل في الكتاب يتحدث عن الصحبة وأحوالها بالأدلة القرآنية الجليّة، ومصطلح "الصحابة" بالمعنى الحالي لم يكن موجوداً أيام الرسول صلى الله وبارك عليه ووالديه وآله، بل تمّ استحداثه لاحقاً بعد الصراع السياسي الدامي أيام بني أمية تحديداً، وانقسام المسلمين شيعةً وأحزاباً، وقد أوضحت في كتبي السابقة، وكتابي هذا أن بعض الأحاديث التي قيلت في حقّ الصحابة لا تستقيم، ومن ذلك "أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم"، فمن كان يخاطب النبيّ حين قال هذا الحديث؟
أليس "الصحابة" الذين حوله، إذن كان يمكن أن يكون الحديث "أنتم كالنجوم.." مثلاً ليستقيم الأمر، لكن الحقيقة أنّ القرآن الكريم نفسه أورد الكثير من الآيات التي تظهر أن المجتمع الإسلامي الناشئ حول الرسول الكريم كان يضمّ المؤمنين الأصفياء، والذين آمنوا فقط، والذين أسلموا ولم يدخل الإيمان في قلوبهم، والمنافقين، والطلقاء، وغير ذلك من الأصناف هذا عدا عن الكفار وأهل الكتاب، فالذين تركوا رسول الله قائماً يصلي كلما رأوا لهواً أو تجارةً هم من الصحابة، والذين كانوا يرفعون أصواتهم فوق صوته هم من الصحابة أيضاً بالمعنى الاصطلاحي الذي تقصده في سؤالك، والذين كانوا يزعجونه في بيته ويدخلون في أوقات راحته من الصحابة أيضاً، وهناك مئات الآيات التي تظهر أن المجتمع الإسلامي لم يكن من الملائكة بل من البشر الذين يتمتعون بدرجات متفاوتة من الإيمان، حتى إنّ الله تعالى يحذر بعض زوجات النبي العظيم نفسه من التظاهر عليه، فما بالكم ببقية الآخرين، صحيح أنّ هناك من المهاجرين والأنصار من رضي الله عنهم من الذين بايعوا النبيّ تحت شجرة الرضوان، لكن هؤلاء عددهم محدود، وليسوا المقصودين فيما أوردت، وإنّما مراجعة ما ذكره الله سبحانه في كتابه العزيز عمن كانوا حول الرسول دون تقديس لهم، وليس المقصود الطعن بهم أو الإساءة إليهم بالطبع، بل وصفهم بما جاء في كتاب الله تعالى، دون مجاملة في الحقّ، فهم غير معصومين، وبالتالي فإنّ اجتهاداتهم بشأن الخلافة أو غيرها من المسائل محلّ نقاش ومراجعة لا ينبغي أخذها على أنّها مقدسة وإلهية.
س ـ ثمة من يقول إنّ فكرة كتابك المركزية ما هي إلا إعادة إنتاج لما طرحه الأزهري علي عبد الرازق في كتابه (الإسلام وأصول الحكم) بما ذهب إليه من أن الإسلام دعوة دينية روحية لا علاقة لها بالسياسة وشؤون الحكم، فهل الأمر كذلك.. وهل كانت أطروحته حاضرة أمامك حينما ألفت كتابك الجديد؟
ـ كل كتبي التي تجاوزت العشرة تناولت فيها تقريباً مسألة أن الإسلام دعوة أخلاقية للناس كافة، وليس دولة سياسية محدودة، وفي الحقيقة لم أقرأ كتاب الشيخ علي عبد الرازق، بل سمعت عنه، وعن محنته المبكّرة مع الذين رفضوا فكره، وبالنسبة لي فإنني أستند أولاً إلى تدبّر كتاب الله فإنّه بحر عميق لا ينضب من الأسرار والعلوم والأفكار، وإلى ما صحّ من حديث رسول الله، وقد وضعت ميزاناً لذلك حتى أميّز الحديث الصحيح من غيره، فكلّ حديث وصلنا يناقض آيات القرآن الكريم لا يمكن الأخذ به حتى لو صحّ سنده، وبالتالي فإنّ مثل هذه الأحاديث مما وضع على لسان الرسول العظيم في فترات لاحقة، من المُحال أن يخالف النبيّ الله تعالى فيها، ويقول غير ما يقول، ومن هذا الميزان أيضاً أنّ كلّ حديث يطعن بعصمة النبيّ نفسه أو بعصمة أنبياء الله الآخرين لا يمكن الأخذ به كذلك، وبخصوص النصّ القرآني فإنّه نصّ مقدس بالطبع، لكن تفسيره الذي وصلنا اجتهادات بشرية ليست معصومة من الخطأ، وقد لا تكون صحيحة، وبالتالي يؤخذ منها ويرد.
ومن هذا الميزان أيضاً أنّه لا وجود للناسخ والمنسوخ، فمن غير المعقول أن ينسخ حديث ظنّي الثبوت نصاً قطعياً كآيات القرآن، وبالتالي فإنه مع هذا التدبّر في النص القرآني، وردّ الأحاديث بالطريقة التي أشرت إليها فإنّ الكثير من الأمور قد انجلت، وقد وضعت مراجعاتي كلها في كتبي السابقة، ومن ذلك "إساءات المفسّرين للنبيّ العظيم"، و"شفاء الذمم من اتهامات المسلمين للنبيّ الأعظم" وغيرها، وفيها أفكار كثيرة تجديدية مما فتح الله بها عليّ، ولم يتفطّن لها الكثيرون، ولم ترد في كتب السابقين من قبل.
يكفي أن تعلم أن توظيف مثل هذا الميزان الواضح في مراجعة الفكر الإسلامي قد جرّ عليّ الكثير من المحاكمات في هذا العصر، فظنّ بعض المتربّصين أنّ نقد ما كان عليه بعض الصحابة هو انتقاد للإسلام نفسه أو عصيان لله تعالى، لا بل ورد في إحدى المحاكمات من التهم ضدي أنّني أقول إنّ البخاري ليس له عصمة، فهل جعلوا مع كتاب الله تعالى كتاباً آخر يُتلى، وهل انتقاد ما ورد في كتب السلف من إساءات واضحة للنبيّ العظيم أمر يحاكم المرء عليه..!؟ سبحان الله.
لقد انتهت مرحلة عبادة الأصنام المصنوعة من الحجارة والتمر، وبقي تقديس الأشخاص السابقين، بل وجعل بعضهم يصحّح النبيّ العظيم نفسه، ولا يجوز انتقاد مسيرته أبداً.
لقد دخلت السياسة في كلّ شيء فأفسدت المراجعات الحقيقية لما وصلنا من الفكر الديني، وأصبح من يقترب من هذه الموضوعات موضع اتهامات وتشكيك في دينه من فقهاء السلطان وأعوانه، ومحاربته في لقمة عيشه ومطاردته في شؤون حياته، لكن أرض الله واسعة، والحقّ كما أسلفت أحقّ أن يُتّبع، ولو كره الكارهون.
التوافق على فهم موحد للدين.. مطلب واقعي أم تصور خيالي؟
علمانيتهم وعلمانيتنا.. هل العقل الغربي علماني صرف؟
مفكر تونسي: لهذا تعثرت الثورات العربية وانتعشت الشعوبية