لعل من أهم آليات هندسة المشهد السياسي في "زمن الرخاء الديمقراطي" - كما يحلو للعديد من المناضلين المهمّشين تسميةَ الواقع في زمن قبض كلفة ثمن "النضال" لا دفعه - هي محاولة أغلب الفاعلين الجماعيين الكبار استثمار الشارع في تقوية مواقع التفاوض المدافعة عن "الشرعية الانتخابية" أو الطعن فيها، أو حتى الانقلاب عليها. لقد كان الجميع يحتاجون إلى "الشارع" بحكم الأزمات الدورية التي تعرفها بلادنا بسبب ما أسميناه بـ"التوافق التأسيسي" وما اشتُق منه من توافقات واصطفافات "لا وظيفية"، سواء من منظور ثوري (مأسسة استحقاقات
الثورة) أو من منظور إصلاحي (مقاومة الفساد). كما كان الجميع يحتاجون إلى مجاز "المليونية" لإظهار قوتهم في الشارع، بل ذهبت بعض الأطراف إلى حد التنظير لمصدر جديد من مصادر الشرعية، ألا وهو "شرعية الشارع" باعتبارها شرعيةً قاضيةً على الشرعية الانتخابية بالمعنيين، بمعنى أنها أعلى منها رتبة، وبمعنى أنها تنزع عنها شرعيتها ذاتها وما نتج عنها من واقع سلطوي.
بصرف النظر عما تثيره "شرعية الشارع" من إشكالات دستورية وقانونية وسياسية - ليس أقلها تأثيراتها الكارثية في مسار الانتقال الديمقراطي الهش سياسيا واقتصاديا - وبصرف النظر عن "التعسف" في استعمال حق التظاهر المكفول دستوريا، والتلاعب به لأغراض لا علاقة لها بالثورة ولا بالإصلاح، فإن الالتجاء للشارع يعكس انسدادا عميقا في العلاقة بين الأطراف المتصارعة على الوكالة عن الحكام الحقيقيين في
تونس. وهو انسداد لم تفلح "مليونيات" معارضي "الشرعية الانتخابية" ولا "مليونيات" مؤيديها في إخراج البلاد منه. ونحن لم نتحدث قصدا عن صراع بين أطراف تريد أن تحكم تونس بل عن أطراف تتصارع لـ"الوكالة" عن الحكام الحقيقيين، لأن مسارات الصراع ومآلاته تشهد على أن سقف الصراع يتم داخل أفق المنظومة القديمة وخدمة لنواتها الصلبة.
انسداد لم تفلح "مليونيات" معارضي "الشرعية الانتخابية" ولا "مليونيات" مؤيديها في إخراج البلاد منه. ونحن لم نتحدث قصدا عن صراع بين أطراف تريد أن تحكم تونس بل عن أطراف تتصارع لـ"الوكالة" عن الحكام الحقيقيين
لفهم هذه الأطروحة بصورة أفضل - وللبرهنة على طابعها البنيوي، أي راهنيتها - قد يكون علينا العودة إلى "المليونيات" التي ساهمت في تشكيل المشهد السياسي في تونس. ونحن هنا نتحدث عن التحركات الاحتجاجية للقوى "
الديمقراطية" بما فيها ورثة التجمع بعد الاغتيالين السياسيين للمرحومين شكري بلعيد والحاج محمد براهمي، كما نتحدث عن تحركات حركة النهضة، خاصة "مليونية" دعم "الشرعية" أو دعم "الوحدة الوطنية" يوم 3 آب/ أغسطس 2013 بساحة القصبة.
فرغم تعارض أسباب "المليونيات"، فإنها قد كانت جميعا تخدم طرفا واحدا هو ورثة المنظومة القديمة الذين استفادوا في مرحلة أولى من سقوط حكومة الترويكا وتشكيل "حكومة كفاءات" برئاسة مهدي جمعة - أي حكومة خالية من"الدسم" النهضوي وكل ما له علاقة بمخرجات انتخابات المجلس التأسيسي، وغنية بـ"الأملاح المعدنية" للمنظومة القديمة ورساميلها البشرية والرمزية المشبوهة - ثم استفادوا في مرحلة ثانية بخلق "قابلية" التطبيع مع ورثة المخلوع، الأمر الذي عكسته انتخابات 2014 التي أعادت ورثة المنظومة القديمة لمركز السلطة في الرئاسات الثلاث.
العقل السياسي الذي أدار المرحلة التأسيسية في جميع ملفاتها قد مهّد لهذه الوضعية عندما تعامل مع "الثورة" باعتبارها لحظة "اختلال مؤقت" في الجمهورية الأولى لا لحظة قطع معها ومع ما حكمها
سواء أكانت "المليونيات" تسعى إلى ضرب الشرعية الانتخابية أم كانت تسعى إلى الدفاع عنها، فإنها كانت تتحرك واقعيا - وليس بالضرورة بصورة قصدية - لخدمة استراتيجية المنظومة القديمة الهادفة إلى استعادة التوازن الذي فقدته بصورة مؤقتة بعد رحيل المخلوع. وكنا قد وضّحنا في مقالات سابقة أن العقل السياسي الذي أدار المرحلة التأسيسية في جميع ملفاتها قد مهّد لهذه الوضعية عندما تعامل مع "الثورة" باعتبارها لحظة "اختلال مؤقت" في الجمهورية الأولى لا لحظة قطع معها ومع ما حكمها - في لحظتيها الدستورية والتجمعية - من سرديات وخيارات في السياسات الداخلية والخارجية.
ورغم أن تلك "المليونيات" قد ساهمت في تشكيل "هويات صلبة" ما زالت تتحرك بمنطق التنافي والتناقض المطلق في الحقل السياسي التونسي (ما يُسمى بـ"القوى الديمقرطية" في مواجهة حركة النهضة وحلفائها)، فإنها تظل رغم ادعاءاتها هويات "وظيفية" في خدمة النواة الصلبة للمنظومة القديمة (المركّب المالي- الأمني-الجهوي المعروف)، وغير قادرة واقعيا على تقديم أي مشروع سياسي قادر على بناء مقومات السيادة والتحرر من واقع إعادة إنتاج شروط التخلف والتبعية، والاكتفاء بوظيفة إدارتهما خدمةً لمافيات الداخل وإملاءات الخارج.
الأفضلية السياسية للتمسك بالشرعية الانتخابية تصبح ذا فاعلية محدودة إذا كان يتحرك واقعيا في الأفق ذاته الذي تتحرك فيه محاولات الانقلاب على تلك الشرعية، أي في أفق التطبيع مع المنظومة القديمة
من هذا المنظور، وبحكم غياب مشروع مواطني اجتماعي يتجاوز الشعارات وترسبات الزمن الاستبدادي يصبح الحديث عن أي نمط من أنماط الشرعية -شرعية انتخابية، شرعية نضالية، شرعية شارعية، شرعية دستورية.. الخ - مجرد مجاز لا محصول تحته إلا تحسين شروط التفاوض لخدمة الحكام الحقيقيين لتونس، أي لخدمة النظام "البلوتوقراطي"، حيث تتحكم عشرات العائلات الثرية -بفضل بنية الدولة الريعية - في 90 في المئة من الثروات الوطنية. ونحن على يقين من أنّ "مليونية" النهضة الأخيرة لن تخرج من هذا الأفق، فالدفاع عن "الشرعية الانتخابية" من موقع الدفاع عن "سياسة التوافق" - أي دخول منظومة الحكم بشروطها - ليس إلا قفا الانقلاب على تلك الشرعية في ظل خرافات النمط المجتمعي التونسي وحرف الصراع عن مداراته الاقتصادية الاجتماعية إلى مدار الصراع الثقافوي الهوياتي.
ختاما، فإن أطروحتنا أعلاه لا تعني أننا نُسوّي بين المتمسكين بالشروط الدنيا للانتقال الديمقراطي الهش وبين الراغبين في الانقلاب على هذا المسار والعودة إلى مربع 13 كانون الثاني/ يناير 2011، حيث ينغلق الحقل السياسي على ذاته بخرافاته اللائكية الاستئصالية المأزومة، بل منتهى ما يعنيه أنّ الأفضلية السياسية للتمسك بالشرعية الانتخابية تصبح ذا فاعلية محدودة إذا كان يتحرك واقعيا في الأفق ذاته الذي تتحرك فيه محاولات الانقلاب على تلك الشرعية، أي في أفق التطبيع مع المنظومة القديمة ومع ورثتها وخياراتهم الكبرى قيميا وسياسيا واقتصاديا. وهو ما يعني في نهاية التحليل أن الدفاع عن "الشرعية الانتخابية" لن يكتسب طابعا "سياديا" إلا بشرط التحرر من خرافات "الجمهورية الأولى"، ومن نواتها الصلبة التي ما زالت تتحكم في هندسة المشهد التونسي من وراء ألف مدافع عن الشرعية أو منقلب عليها.
twitter.com/adel_arabi21