حياة تتقلب، ودهر يتأرجح، وتلك طبيعة الدنيا، والتهامي لما قال:
جبلت على كدر وأنت تريدها *** صفوا من الأكدار والأقذارِ
ومُكلّفُ الأيّام ضد طباعها *** مُتطلبٌ في الماء جذوة نارِ
والكدر ليس دوما هو الشر والمنغص، بل كم من كدر يقود للعليا وكم من معاناة تسوِّدُ صاحبها، بله كذلك سنة الحياة؛ والدنيا ولئن جبلها الله خلقةً على النصَب والتعب والألم، ُإن سنتها هذه هي التي تقدح زند الهمة وتبري أسنة المجد، وكنت لما عزمت وتوكلت واعتقدت وآمنت أن الدرب صعب وشاق وطويل، وليست
الهجرة بالأمر الهيِّن الذي يستمريه عموم الخلق وتتقبله كل النفوس، والناس تختلف نيات هجرتها من شخص لآخر، حيث حاضنة المرء وبيئته، وهذه الدار تعج دوما مصاعب قد لا تنفد إلا عند جنة وسعادة الآخرة، والنفوس الكبيرة التي تمتهن ذاتها وتمتطي ذرى الجوزاء تراها تعزم على كل شيء دون كرامتها، وهي ـ لعمري ـ تجنِّحُ في أعماق سماء الأنفة؛ تلك مباذخ سموها وروعة أنقها.
خرحت من المدينة والمدينة اغترابي عنها ليس شيئا عادياً، وأهلها كالسمك إنْ خرج من الماء، يموت.. نعم تذبل نفسه وتذوي روحه وتتمايل ملامحه ترنحاً، وهذا مما يعقد رحلة العناء ويزيدها نَصَباً وكدَّاً، ذاك ما عانيته.. ولكن يظل كل أحد من الخلق له دوافعه ومنطلقاته في الاغتراب، لكنْ حينما تمر علينا: "إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم، قالوا فيم كنتم؟ قالوا كنا مستضعفين في الأرض ، قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها"
لم أكن أعبأ بما تردده العرب أن بلادي عزيزة وإن جارت علي، لأن البلاد جماد لا تجور وإنما يجور طغاتها ومستبدوها، ولذا لا خير فيمن يقيم فيها ذليلا ممتهناً مستذلاً.
في 28 شباط (فبراير) 2018، هبطت طائرتي في هيثرو بلندن، بعد أن جئت من بيروت نحو بلاد الإنجليز، في رحلة أشبه ما تكون للمجهول من حيث تفاصيلها، هبطت وإذا الثلج يكسو لندن ومطارها المجيد، ونزلت ولست أدري هل أقضي نحبي هنا؟ أم يقدر لي حياة أخرى في عالم يموج بالأحداث، ومن هذه البلدة الطيبة بريطانيا صدحت من خلالها بصوتي في منابر إعلام الدنيا، وأن تكون من لندن تصدع قوى الضلالة العربية ومنابع الإرهاب اليعربية، فذلك مما يجعله مؤثراً وكنت لم أظهر من قبل قط على أي وسيلة إعلامية، ولكن هنا حيث انشق عبق الحرية فتتشبع روحي بمعاني لم أعالجها قط قبلاً..
ففي أغلب القنوات شعرت وقصدت من قبل أن أقول كل ماعندي بالفم المليان، وليس من عادتي أن أكون متلجلجاً لأني لست من أصحاب الحسابات، أو التزام في جماعة أو تنظيم تحدُّ من انطلاقتي وتوهجي وقول ما عندي بصميم إرادتي وكامل نشوتي، وها أنذا منذ أنْ عرفت نفسي، لا آبه إلا بقول الحقيقة كاملة، لأن الحقيقة المنقوصة جزء من تلويث الحقيقة.
في بريطانيا عرفت الكثير من الأطياف؛ كل الأطياف والأشخاص المنظمين وغيرهم، ورأيت خلقاً لا يُحصوْنَ ومن كل البلدان، ورأيت عجائب وغرائب سلباً وإيجاباً.. وهذه السنوات السمان، لماذا وصفتها بالسمان؟
إنها حقا هكذا، حيث لقيت من كنت أتمنى لقاءهم والجلوس إليم واكتشفت خُلُقَ خَلْقٍ كثيرين، ورأيت الخُبْرَ بنفسي دون وسائط جميلاً وقبيحاً، وهذ طبع الدنيا وفي كل مكان.
لله ما أعجب الغربة والاغتراب ولقد أكثر المتقدمون عنه، وليس للخلي حرقة الشجي، وعذل العاشق حرام وجرم لا يغتفر، حتى تضع نفسك مكانك، ومن قال لك أن المغترب دوما يكون سعيداً؟ قد يكون غريب المال والحلم والزوجة سعيدا، إلا غريب النضال ومحاربة الاستبداد، فهو دوما توخزه مكامن البعد وتُضنيه لواذع البين، ويعرِض له ما لا يعرض لطالب الأحوال الأخرى، فليس خافياً علينا طاقية الإخفاء سيئة الذكر ومناشير الدرعية ورصاصات الغدر في قلب عواصم العالم الأول، أو بعد هذا يحسد السياسيين حاسد؟!
هذه اللوعة تكون عندما تقترن بفلسفة الدنيا الفانية، وتكون أمثولة نشوى لمَّا تراها عروساً تنثني طرباً وأنت تتلمس مواطن الشهادة من طعنة هنا ورصاصة هناك وربما منشار غادر من وراء البحار، نعم.. نعم تلك أمنية ونحن لم نخلق لفانية زائلة، وهذه من المفارقات العجيبة أني لمست أن الحياة ربما صارت لتحسين الحال بل ربما ارتمى بعضٌ بوهدة الاتجار بقضايا هنا وهناك، يَعِزُّ على الحر أنْ يكون يوما ولا يقوم بجهد ينكأ فيه عدوا وينضي مستبدا، وقد قامتْ عليه الحجة ولا عذر له، في بلاد تهيم بلواعج الحرية وتلهج ساحاتها بقيم العدل، أو قل تدعو لذلك.
وهنا وأنت في غمرة تدبيج مقالات جلد الظالمين وفضح عوراتهم تجد من يهمس في أذنيك قائلا: هل أنت سعيد؟ نعم وأطير شوقا وفرحا وبهجة وتألقاً، وإنْ كان حجم التضحية كبيراً مع قلة المعين وخذلان الناصر، بيد أن من نافح عن إيمان ليس كنائحة ثكلى، وهنا يأتي برد اليقين وهدأة الصبر، والصبر ضياءٌ ينير لك الطريق السوداء، السعادة أن ترى نفسك تحلق في سماء تحرر من كل طاغوت؛ طاغوت المستبد وطاغوت الأنا وطاغوت الحزب وطاغوت المشاعر الطاغية والتي قد تغلب كل طاغوت.
كل سعادتي التي تغمر قلبي وتنشرح لها روحي لست أدري مصدرها، وربما كان أن جرحا غائرا بفؤادي حيث أرى ما لا أستطيع النكير عليه، لكن هاهنا وجدت جوا من التنفس الذي ربما أكسد الضمير لو طال به الأمد، فلذا لا حدود ولا قيود تجاه المستبد أي مستبد، وقد يكون المستبد بلحية ليس شرطا أن يكون حاكما جبارا أو مستبدا قتَّالاً.. كلَّا.. المهم أن تأدية الواجب وليس واجب الأمة على مناضليها بل واجب ضميرك عليك، ثم واجب أولو الفضل لتوصل صوتهم للعالم، ثم واجب شعوب تطبعت بالذل والمسكنة وتلك ـ لعمرالله ـ الفاقرة،
أنا لا أكتب أشعاري
لكي أحظى بتصفيق
وأنجو من صفيرِ
أو لكي أنسج للعاري ثيابا
من حريرِ
أو لغوث المستجير
أو لإغناء الفقيرِ
أو لتحرير الأسيرِ
أو لحرق العرش، والسحق بنعليَّ
على أجداد أجداد الأمير.
بل أنا من قبل هذا
وأنا من بعد هذا
إنما أكتب اشعاري..
دفاعاً
عن ضميري
وهنا كثيرا ما يقال لا تلوموا الشعوب ولا توجهوا لها عتابكم فأنتم في فسحة من أمركم، فأقول حسناً، ها نحن فعلنا ولسنا خيرا منها إذ كنا جزءا منها فواجب الوقت والعهد أن تكون مثلنا فإما قول الحق وإما الاجتراء على المهاجر التي سلخ فيها ملايين من العرب أعذب أعمارهم وإما ألا يلوموا بنيهم.
ورأيت مما يريح الضمير ويقرُّ وعثاء النفس أنك تعلم أنك ترضي ضميرك، ودوما حاوِل أن تكون سفيرا لحريتك ورائداً لكرامتك، ولا تكن يداً يضرب بها غيرك وأداة تبستر فيها قناة عزيمتك. كان الحديث عن الغربة وعن لندن والمهجر فطوّحتْ بنا الهموم حتى بلغنا نهاية الكلمات وكأنا ما ارتوينا من شجن الغربة وتباريح المهجر.
ومضة: كل وخزة في الغربة بأجر ونصر.
*كاتب وباحث حجازي