الأصل في الإنسان أن يولد حُرّا سيّدا لا سلطان لبشر عليه إلا سلطان خالقه. هذا هو الأصل في الأشياء والنواميس والقوانين التي تحكم حياة البشر. لكنه من ناحية ثانية قول نظريّ فلسفيّ حقوقي يُحلّق عاليا في فضاءات المثقفين والأكاديميين والكتاب والمحللين والنخب التي انفصلت عن واقع عربيّ ممزق بالعبودية والتسلط والقهر وإذلال الإنسان. حريّة الإنسان استثناءٌ أما القاعدة فمسألة أخرى مختلفة تماما.
لا اختلاف في أنّ أحد أهمّ محفزات الربيع العربي وثورات الشعوب الأخيرة كان مطلب الحرية لا بما هو فكرة نظرية بل بما هو حاجة اجتماعية وفكرية وإنسانية يعبّر الإنسان عبرها عن رفضه للظلم ورفضه للقمع ورفضه للاستعباد المغلّف بمقولة الدولة الوطنية. الحرية هي أمّ المطالب الفطرية وهي الشرط الذي يكون به الإنسان إنسانا.
مطلب الحرية هو رفض للعبودية والاستعباد لا بالمنطق التاريخي فقط بل بالمنطق السياسي والاجتماعي والحضاري الجديد وهو الأمر الذي يجعل من موجة الاحتجاجات العربية الأخيرة إعلانا عن إعادة فرض مطلب الحرية كشرط لإعادة بناء الإنسان.
مبدأ الطاعة وتجريم الحرية
هو واحد من أعظم المبادئ وأخطرها في الفكر العربي الإسلامي وفي ما ترتبّ عن هذا الفكر وما صاغه من السلوكات والأنماط القيَميّة الفردية والجماعية، حيث مثلت الطاعة شرطا أساسيا من شروط نشأة الدولة وشروط بقائها ورُبطت سريعا بشبكة من المقولات مثل مقولة الولاء والبيعة التي تضمن استقرار النظام السياسي وتقي من الهزات والاضطرابات والفتن كما حدث في صدر الدولة الإسلامية.
مبدأ الطاعة هو في الأصل شرط من شروط الإيمان الذي لا يصح إلا به وهو مبدأ عمودي يربط بين المخلوق والخالق وهو بذلك ضامن لتحقيق مقولة الحرية لأن طاعة الله تستوجب التحرر من الطاعة لغيره وهو شرط الحرية. لكن سرعان ما تحوّل مبدأ الطاعة إلى مبدأ أفقي وتحولت الطاعة من طاعة الخالق إلى طاعة وليّ الأمر أو الحاكم بأمره ثم تطوّر الأمر عبر تاريخ الحواضر العربية إلى منظومات سلطوية قمعية انتهت بتشتت الكيانات الإسلامية ثم سقوطها تحت براثن الاحتلال.
تشهد الحالة العربية اليوم طورا جديدا من أطوارها الحضارية وهو يتميز بتفكك أطر السيطرة والتحكم والقدرة على الإخضاع بعد أن نجحت الجماهير في إسقاط عدد من صروح القمع والاستبداد. وهو الأمر الذي يبشر بعصر جديد لن تكون معه الأدوات القديمة قادرة على تحقيق نجاح يُذكر بعد تصدّع جدار الخوف وانفلات المارد الرقمي من عقاله.
استدعى نسق الدولة الاستبدادية مقولة الطاعة وطوّعها لصالح النظام الحاكم عبر شبكة كثيفة من الأذرع والوسائط وخاصة منها تلك التي نشطت داخل الأنظمة الوراثية. طاعة ولي الأمر من طاعة الله مهما ارتكب من الخبائث والجرائم والفواحش وهو ما صرّح به مؤخرا أحد مشايخ السلطان في الخليج علنا على شاشات التلفاز. نشطت المدارس الدينية وخاصة منها تلك المؤسسة حديثا مثل المداخلة والجامية وبعض التيارات السلفية في ترسيخ مبدأ الطاعة باعتباره أساس الدين وشرط انتظام العقيدة.
لكنّ خطورة هذا المبدأ إنما تتجلى في توظيفه من أجل تجريم مبدأ أعظم وهو مبدأ الحرية الذي هو في الشكل السويّ لمبدأ الطاعة شرط من شروطها متى كانت خالصة لله وحده. جُنّدت كل طاقات الأنظمة الاستبدادية لإظهار الحاكم وإخراجه مخرج الإله الذي تتوجب طاعته وعندها صار الخروج عليه أو نقده أو معارضته نوعا من أنواع الكفر والشرك وصارت معصية أوامره أقرب إلى معصية الله.
الفتنة والخروج
من مقولات النظام السياسي العربي الوسيط: "سلطان غشوم ظلوم خير من فتنة تدوم" وهي مقولة تلخّص بتركيز شديد الطريقة التي تبرر بها الأنظمة القمعية ظلمها وقمعها وفسادها. فخوفا من الفتنة يكون الاستبداد حالة مقبولة بل وسبيلا لمنع الفتنة ومنع ضياع الدولة وسقوط السلطان وهي نفس المقولة التي رددتها المرجعيات الدينية الكثيرة خلال ثورات الشعوب التي عرفتها المنطقة خلال السنوات العشر الأخيرة.
تحالفت نظرية المؤامرة مع خطابات الثورة المضادة مع مرجعيات الاستبداد الدينية لتُفرز واقعا نظريا جديدا جعل من التظاهر والمطالبة بالحقوق والحريات شكلا من أشكال الخروج على الحاكم. وهي حالة تستدعي كامل التراث الإسلامي في صدر الدعوة وتأسيس الدولة عندما بدأ الصراع على السلطة وعلى المرجعية الدينية يتشكل في قلب البناء الحضاري والعقائدي للدولة الفتيّة.
إن إبقاء الفرد والجماعة في حالة من العبودية المقبولة والممتعة أحيانا هو الذي سمح بتأبّد الأنظمة الاستبدادية وانتصار الثورات المضادة وهو الذي مكّن لعودة الاستبداد ولتأخر موعد النهضة.
من هنا كان نعت المداخلة والتيارات السلفية للمتظاهرين بالخوارج الذين يريدون الفتنة ويريدون منازعة السلطان والحاكم المتغلّب. كان النعتُ أقرب ما يكون إلى التكفير لأنه يُصنّف المتظاهرين ويحشرهم في فئة المارقين عن الدين وعن طاعة وليّ الأمر التي هي من طاعة الله.
هكذا نجحت السرديات الدينية والإعلامية في تحويل الدين بما هو أحد أهم مصادر التحرر إلى مصدر من مصادر تكبيل الفرد والجماعة. تمكنت المنابر الإعلامية من ضخ كمّ هائل من الأنساق التي تُنفّر من كل أشكال التحرر بأن تسِمَه بالفوضى والتخريب والفتنة والخيانة والخروج والتآمر على الوطن. ولم يكن الهدف من كل ذلك سوى إبقاء الجماهير في حالة نكوص وانكفاء لا تستطيع معها تبيّن أسباب التردي والهوان الذي تعيشه.
إن إبقاء الفرد والجماعة في حالة من العبودية المقبولة والممتعة أحيانا هو الذي سمح بتأبّد الأنظمة الاستبدادية وانتصار الثورات المضادة وهو الذي مكّن لعودة الاستبداد ولتأخر موعد النهضة. صناعة العبيد هي أخطر الصناعات الرائجة في المنطقة العربية وهي قائمة على إلغاء ملكة النقد وتكفير المعارضين وتخوينهم وشيطنة كل دعوات تمس من مبدأ الطاعة والخضوع والقبول بالأمر الواقع.
تشهد الحالة العربية اليوم طورا جديدا من أطوارها الحضارية وهو يتميز بتفكك أطر السيطرة والتحكم والقدرة على الإخضاع بعد أن نجحت الجماهير في إسقاط عدد من صروح القمع والاستبداد. وهو الأمر الذي يبشر بعصر جديد لن تكون معه الأدوات القديمة قادرة على تحقيق نجاح يُذكر بعد تصدّع جدار الخوف وانفلات المارد الرقمي من عقاله.
لقاء المنفي بحفتر وسياقات الوفاق في ليبيا
المجلس الرئاسي الجديد في ليبيا.. فرص وتحديات