قضايا وآراء

قراءة نقديّة لمخرجات حوارات القاهرة المعنية بالانتخابات الفلسطينية

1300x600
ثمّنت الفصائل الفلسطينية نتائج حوارات القاهرة الأخيرة (8-9 شباط/ فبراير)، معتبرة إياها إنجازا وطنيا وخطوة مهمة نحو "إنهاء الانقسام، واستعادة الوحدة الوطنية وإعادة ترتيب البيت الفلسطيني"، مؤكدة للشعب الفلسطيني أن الحوارات والمخرجات هذه المرّة جادّة وباعثة على الاطمئنان، بعكس الحوارات والاتفاقات السابقة.

الجدّية المذكورة هنا، يصعب على المراقب قياسها عبر الخطابات والتصريحات المطالبة الفلسطينيين بالاطمئنان، بسبب تكرار ذكرها والتلويح بها في كل محطة من محطات الحوار "الوطني"، الأمر الذي نزع الثقة بين المُخاطِب والمُخاطَب، وأثار الشك وانعدام اليقين.

في ذات السياق، فإن المراقب يجد نفسه مضطرا للوقوف على مفردات ما تم الاتفاق عليه بين الأشقاء الأفرقاء عبر إمعان النظر والتمحيص في وثيقة البيان الختامي الصادر عن الحوار الوطني الفلسطيني في القاهرة، بحثا عمّا يُرسِّخ لديه الشعور بالاطمئنان نحو هذه الحوارات ومخرجاتها، التي من المفترض أن تشكّل منصّة لانطلاقة وطنية جديدة تُنهي ما يُسمى بـ "الانقسام"، وتستعيد الوحدة الوطنية في بيت فلسطيني جامع.
المراقب يجد نفسه مضطرا للوقوف على مفردات ما تم الاتفاق عليه بين الأشقاء الأفرقاء، عبر إمعان النظر والتمحيص في وثيقة البيان الختامي الصادر عن الحوار الوطني الفلسطيني في القاهرة، بحثا عمّا يُرسِّخ لديه الشعور بالاطمئنان نحو هذه الحوارات ومخرجاتها

وهنا، سنعتمد في القراءة على ما ورد في تلك الوثيقة الصادرة عن حوارات القاهرة الأخيرة (8-9 شباط/فبراير)، من خلال نقاش النقاط التالية:

أولا: ورد في مقدمة الوثيقة السياسية، أن تلك الحوارات تجري "برعاية كريمة من الشقيقة الكبرى جمهورية مصر العربية، ومباركة من فخامة الرئيس عبد الفتاح السيسي"، هذا بالإضافة لما ورد في خاتمة الوثيقة: "كما تُعبّر الفصائل المشاركة عن تقديرها لمتابعة الرئيس عبد الفتاح السيسي لهذه الجهود المباركة، وتتوجّه لسيادته للتفضّل بتوجيه الجهات المعنية في مصر الشقيقة لمتابعة تنفيذ ما تم الاتفاق عليه".

اللافت هنا أمران؛ أولا، ذكر الرئيس المصري باسمه وصفته، وثانيا، توجه الفصائل مجتمعة له بالطلب إليه ليكون راعيا ومرجعية إقليمية وحيدة لمتابعة تنفيذ ما تم الاتفاق عليه، دون ذكر أي طرف إقليمي أو دولي آخر. وإذا كنّا ندرك أن هذا الأمر لا يمكن أن يُؤتى على ذكره في البيان إلا بطلب أو قبول مصري، فإنه يعني أن القيادة المصرية باسم أعلى منصب فيها (الرئاسة) أرادت أن تدخل بثقلها على الملف الفلسطيني بصفتها راعيا "حصريا" دون منازع، وفي ذلك رسالة مصرية بلسانٍ فلسطيني إلى الرئيس الأمريكي جو بايدن لتنبيهه إلى أهمية دور مصر في "الصراع العربي الإسرائيلي". وفي ذلك أيضا رسالة مصرية بلسان فلسطيني فصيح، موجهة إلى كل من تركيا وقطر وحتى موسكو، بأن مصر لن تقبل أن ينازعها أو يزاحمها أحد في رعايتها الحصرية لهذا الملف.

هذا في البعد الإقليمي. أما في البعد الفلسطيني وهو الأهم، فبلا شك أن حصرية الرعاية المصرية ستكون منحازة في غير إعلان إلى فريق أوسلو وإلى حركة "فتح" التي تلتقي مع القاهرة في تمسكها بالتسوية السياسية خيارا استراتيجيا، وباعترافها بالاحتلال الإسرائيلي على ثلثي أرض فلسطين التاريخية، وبنبذها العنف (المقاومة)، ما يعني أن سياق الحوارات ومخرجاتها خلق خللا في المشهد الفلسطيني لصالح طرف منافس في الانتخابات (حركة فتح)، ما سيؤثر بدوره على مجريات الانتخابات التشريعية وصولا إلى انتخابات المجلس الوطني المفترضة.

ثانيا: ورد في المقدمة السياسية للوثيقة: ".. إجراء الانتخابات مستندين إلى التوافقات والاتفاقيات الفلسطينية السابقة، لا سيّما وثيقة الوفاق الوطني ومخرجات اجتماعات الأمناء العامين في 3 أيلول/ سبتمبر 2020". والسؤال هنا: إذا كانت حركة "فتح" قد عطّلت الانتخابات البلدية، وتنكّرت لنتائج انتخابات المجلس التشريعي للعام 2006 التي جرت بموجب وثيقة الوفاق الوطني محل الذكر، كما عطّلت مفاعيلها كافة، بدءاً من انعقاد جلسات الأمناء العامين للفصائل وانتهاء بانتخابات المجلس الوطني، فما الذي يدعو لاستعادة الثقة في المسار الحالي وفي قيادة حركة "فتح"، التي لا زالت على عهدها ولم تبدّل خياراتها الاستراتيجية (التسوية، والاعتراف بالاحتلال، والتمسك بالاتفاقيات السياسية والأمنية الموقّعة معه)؟

هذا من جانب، ومن جانب آخر، فإن استناد مخرجات حوارات القاهرة الأخيرة على مخرجات جلسة الأمناء العامين في 3 أيلول/ سبتمبر 2020، يثير القلق والريبة في المصداقية؛ لأن مخرجات الأمناء العامين نصّت على إدانة التطبيع باعتباره طعنة في ظهر الشعب الفلسطيني، فماذا فعلت السلطة بقيادة الرئيس محمود عباس؟ ألم تستعد علاقاتها الدبلوماسية مع الدول المطبعة قبل أن يجف حبر اتفاقات "أبراهام"؟!

الأهم من ذلك، فقد نصّت مخرجات الأمناء العامين على "تشكيل لجنة من شخصيات وطنية وازنة، تحظى بثقة الجميع، تقدم رؤية استراتيجية لتحقيق إنهاء الانقسام والمصالحة والشراكة في إطار م. ت. ف الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، خلال مدة لا تتجاوز خمسة أسابيع". وهنا نتساءل: ما هو واقع تلك اللجنة ومصيرها، فهل شكّلت أم لم تشكّل بعد؟ وما هي رؤيتها المفترض إعدادها خلال خمسة أسابيع؟!

فإذا كانت مخرجات البيان الختامي لحوارات القاهرة الأخيرة تتكئ على وثيقة الوفاق الوطني، وعلى مخرجات جلسة الأمناء العامين التي لم تر النور وكان محلها الإهمال وعدم الاكتراث، فهل سيكون مصير الأخيرة أفضل من سابقاتها؟

ثالثا: نصّت الوثيقة في البند الأول على أن "الشراكة الوطنية مسار كامل يبدأ بانتخابات المجلس التشريعي.. ومن ثم استكمال تشكيل المجلس الوطني.. بما يضمن مشاركة الكل الفلسطيني في منظمة التحرير.. بهدف تفعيل وتطوير منظمة التحرير الفلسطينية وتعزيز البرنامج الوطني المقاوم".

من حيث البدء، إذا كانت الأطراف تُشيْع حرصها على عقد انتخابات المجلس الوطني بصفته هدفا وطنيا أسمى، فلماذا لا تُجرى انتخابات المجلس الوطني أولا أو بالتوازي مع المجلس التشريعي؟ أم إن وراء الأكمة ما وراءها؟
 
أما إذا تجاوزنا هذا السؤال والإجابة عنه، فإن التجربة التي شهدتها وثيقة الوفاق الوطني وانتخابات المجلس التشريعي من العام 2006، تؤكد أن تأخير انتخابات المجلس الوطني يعدّ تكرار الذات الخطأ، وقد يُفضي إلى ذات النتيجة، أي بوقف انتخابات المجلس الوطني بحجج وذرائع كثيرة بعد أن يجدد الرئيس عباس شرعيته الدستورية، خاصة أننا نعلم أن حركة "فتح" والدول العربية المعنية لا ترحّب، بل تمانع بدخول فصائل المقاومة إلى منظمة التحرير الفسلطينية إلا إذا قبلت تلك الفصائل بتغيير جلدها، ناهيك عن الخشية من تجدد الاشتباك وتعمّق الانقسام إذا فازت حركة "فتح" بانتخابات المجلس التشريعي ورفعت شعارها الشهير: سلطة واحدة، وقانون واحد، وسلاح واحد، بما يعنيه ذلك من تسليم المقاومة لسلاحها أو إدماجها في قوات الأمن الوطني والأجهزة الأمنية في أحسن الأحوال.

وإذا كان البند الأول يؤكد "مشاركة الكل الفلسطيني في منظمة التحرير.."، فما هو تعريف الكل الفلسطيني؟ وهل فلسطينو الخارج منهم؟ وإذا كانوا كذلك، فمن يمثلهم؟ ولماذا يتم استبعادهم عن تلك الحوارات، خاصة أن المجلس الوطني الفلسطيني بمكوناته التاريخية، وحسب النظام الأساسي والعرف السياسي المعمول به، يضم شخصيات اعتبارية ونقابات ومرجعيات أهلية؟

وإذا كان البند الأول من الوثيقة يؤكد "تعزيز البرنامج الوطني المقاوم" كهدف أساس، فمن المنطقي السؤال عن ماهية البرنامج الوطني المقاوم، وهل المجتمعون في القاهرة اتفقوا على ذلك، أم إن لكل فصيل تعريفه الخاص بالبرنامج الوطني المقاوم؟ وإذا لم يتفقوا على ذلك مسبقا، ألا يعني ذلك وضع العربة أمام الحصان، خاصة أن الرئيس عباس أكد مرارا وتكرارا تمسكه بالاتفاقيات السياسية والأمنية الموقعة مع الاحتلال؟

رابعا: البند الثاني من الوثيقة، أكّد إجراء الانتخابات "في مدينة القدس والضفة الغربية وقطاع غزة دون استثناء، والتعهّد باحترام وقبول نتائجها". ونجد أنفسنا مضطرين للاستفسار عن الجهة الضامنة لحصول الانتخابات في مدينة القدس الواقعة تحت سيطرة الاحتلال المباشر، ناهيك عن سيطرته أمنيا على نحو 60 في المئة من عموم الضفة الغربية. فإذا كان رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي يؤمن بيهودية القدس، ويستعد بدروه لخوض انتخابات "الكنيست الإسرائيلي" بالاعتماد على اليمين الإسرائيلي المتطرف.. يعدّ طرفا معنيا بالانتخابات في القدس، فإنه من المرجّح ألا يقبل بدخول القدس حلبة الانتخابات الفلسطينية. وإذا حصل المرجّح، فما هو مصير المصالحة الوطنية وإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية؟

جملة صغيرة وردت أيضا في البند الثاني من الوثيقة تنص على "التعهد باحترام وقبول نتائجها (أي الانتخابات)"، فإذا كانت التجربة السابقة من العام 2006 أكّدت عدم احترام حركة "فتح" لنتائج الانتخابات، ناهيك عن عدم اعترافها بالمسؤولية عن تعطيل المسار الانتخابي لنحو 15 سنة، ورفضها الاعتراف بالمسؤولية عن الانقسام، أقلّه من باب المراجعة والصدق مع الذات والشعب، فما الذي يضمن عدم تكرار المشهد؟ هل إبداء حسن النوايا خطابيا يكفي لضمان احترام الأطراف لنتائج الانتخابات؟

خامسا: في الفقرة الرابعة، الفصائل تطالب الرئيس محمود عباس بإصدار "مرسوم رئاسي بتشكيل محكمة قضايا الانتخابات وتوضيح مهامها، استنادا لهذا التوافق وطبقا للقانون". أيضا في الفقرة السادسة تدعو الفصائل "السيد الرئيس أبو مازن لإصدار قرار ملزم بإطلاق الحريات العامة وتشكيل لجنة رقابة وطنية لمتابعة التنفيذ". أيضا في الفقرة الحادية عشرة ترفع الفصائل توصية للرئيس عباس للنظر في تعديل العديد من نقاط القانون الانتخابي.

تلك المطالبات والدعوات من الفصائل للرئيس محمود عباس بإصدار مراسيم، وتحديد مهام تجعل منه فوق الانقسام والخلاف، مع أن الجميع يدركون بأنه المسؤول أساسا عن التنكّر لنتائج انتخابات العام 2006، وبأنه المعطّل لوثيقة الوفاق الوطني، وبأنه المعطّل لمحطات ما يُسمى بالمصالحة الوطنية كافة، وبأنه المسؤول عن عودة التنسيق الأمني مع الاحتلال، وبأنه المسؤول عن تعطيل قرارت اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية كافة، الداعية لإعادة النظر في العلاقة مع الاحتلال الإسرائيلي، من ثَمّ فإن التعامل مع الرئيس "أبو مازن" بصفته منزها وليس طرفا في المشكلة، ومن ثم التعامل معه كراعٍ للمصالحة والانتخابات الفلسطينية وضامن لها، يعد خطيئة سياسية.

وأخيرا، سادسا: الفقرة العاشرة من الوثيقة تنص على "معالجة إفرازات الانقسام، من خلال لجنة يتم تشكيلها بالتوافق وتقدم تقريرها للرئيس، الذي يحيلها لحكومة ما بعد انتخابات المجلس التشريعي للتنفيذ". هذه الفقرة تحمل الكثير من غرائب الأمور وعجائبها وطنيا وأخلاقيا، فكيف تقبل قيادة سياسية أن يتحول 40 في المئة من شعبها ممّن يحق لهم المشاركة في انتخابات المجلس التشريعي (الفلسطينيون في قطاع غزة)؛ إلى رهائن بيد الرئيس محمود عباس وحركة "فتح"، عقابا لهم على حريتهم في اختيار المقاومة ممثلا لهم في انتخابات العام 2006.

كيف تقبل الفصائل بأن يتوجه سكان قطاع غزة إلى صناديق الاقتراع وسيف الحصار مسلط على رأسهم، محذرا إياهم من تكرار التجربة ومن اختيار المقاومة التي يُراد لها أن تصبح قرينة الجوع والفقر والحصار؟

إن الفقرة العاشرة من البيان، ليس فقط تُناقِض مقتضيات الحرية والاختيار السياسي، بل هي مبرر لاستمرار الحصار والعقاب الجماعي لأغراض سياسية، وهو ما يعدّ جريمة ضد الإنسانية ضد المدنيين الفلسطينيين. وهذا مدعاة للقول بأن من يمارس الحصار ضد شعبه ليس أهلا للقيادة، وليس أهلا لحمل الأمانة، فالشعب الفلسطيني الذي قدّم خيرة أبنائه على درب الشهادة، وقبل بأن يتحوّل أبناؤه إلى شموع تذبل في سجون الاحتلال من أجل صناعة غد أجمل للأبناء والأحفاد؛ أكرم من أن يُساق هكذا. فالقدس يا سادة، وفلسطين يا كرام، لا تُستعاد إلا بالحرية والأحرار أولا.