ما زال فيلم "ذا سوشيال دايليما" (المعضلة الاجتماعية)، يقابل بالاستحسان والنقد الإيجابي من المهتمين بصناعة السينما وعلماء النفس والاجتماع، منذ بداية عرضه في مطلع عام 2020، فهو فيلم توثيقي يتناول ما اعتبره مخرجه (جيف أورلوسكي) تدابير متعمدة من شركات عملاقة تقدم منصات إلكترونية عبر الأنترنت، مثل غوغل وفيسبوك وتويتر وإنستغرام، لحمل مستخدميها على إدمان التواجد فيها، ثم حلب وشفط بياناتهم الشخصية لاستخدامها في أغراض التسويق والترويج لسلع وخدمات أو أفكار معينة.
وما من شخص استخدم الأنترنت إلا وكان ضحية غواية الإبحار بلا بوصلة في بحار تلك الشبكة، متنقلا ـ وإن شئت قل مترنحا ـ من موقع إلى آخر حتى ليكاد ينسى غايته الأساسية من تصفح "النت"، ثم جاءت الهواتف الذكية وصار مستخدموها متعبدين في محراب واتساب أو تلغرام أو فايبر أو آيمو، بدرجة أن خدمة البريد الإلكتروني التي شكلت أعظم طفرة عرفها التاريخ في التواصل بين بني البشر صارت موضة قديمة وأصبح استخدامها يقتصر على المراسلات الممعنة في الرسمية.
بعد استعراض الجوانب الإيجابية لمنصات التواصل الاجتماعي، يفضح الفيلم كيف أن كبريات الشركات التي تدير وسائل التواصل الاجتماعي تستعين بكتائب من علماء النفس والاجتماع، لتحليل بيانات مستخدميها ثم وضع برمجيات تقود الى ادمانهم لها، والتأثير عليهم سياسيا وثقافيا واجتماعيا واقتصاديا، ولو تطلب ذلك نشر نظريات المؤامرة والأكاذيب حول كل قضية مستجدة، ومعلوم أن موقعا يحمل إسم كيوأنن Qanon كان القناة الرئيسة لحشد الدعم للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في معركته للفوز بولاية ثانية ضد منافسه جو بايدن، بنشر مزاعم بأن حزب بايدن (الديمقراطي) يدعو لإباحة الاتصال الجنسي بالقُصَّر، وأن اليهود يقومون بتسليط شعاع ليزر قوي لتدمير الولايات المتحدة ببطء، ورغم أنه ما من جهة تعرف القائمين على أمر الموقع، إلا أنه وجد ملايين الأتباع والأنصار الذين يروجون لتلك المزاعم، و"فوقها" أن الأرض مسطحة.
كل "كليك" وكلمة وصورة تصدر عن مستخدم منصة تواصل تخضع للرصد والمراقبة لتحديد هوية المستخدم ومكان إقامته وطريقة تفكيره ليسهل وضع مخطط لاصطياده إلى مواقع أو سلع يُعتقَد أنها تروق له، ولو تطلب ذلك ـ كما يحدث كثيرا ـ الترويج لأنباء كاذبة، كما فعل أقطاب وعوام الحزب الجمهوري الأمريكي، بالزعم أن خسارة ترامب للانتخابات الأخيرة كان بسبب تزوير خصومه للانتخابات، وهو الزعم الذي قاد أولئك العوام إلى ارتكاب جرائم جنائية ودستورية في 6 كانون الثاني (يناير) الماضي باقتحام مقر الكونغرس لمنع إعلان فوز خصم ترامب (بايدن)، وقامت بتغذية تلك المزاعم شركات تقنية معلومات منافسة للشركة التي رسا عليها عطاء تمرير أصوات الناخبين عبر الأنترنت.
وللشركات التجارية والصناعية الكبرى أفانين عجيبة في حمل مستخدمي منتجاتها على الإدمان، وقليلون من مئات الملايين الذين يحرقون أطنانا من التبغ يوميا من يعرفون مثلا أن نحو أربعين صنفا من السجائر المتداولة في العالم، وعلى رأسها الأنواع الأكثر رواجا، تحتوي على أكثر من 14 مادة إضافية من بينها الكراميل الذي تصنع منه الحلوى لجعل طعمه مستساغًا لصغار السن، وأن من بين الإضافات إلى التبغ الكاكاو والفواكه المجففة والعسل الطبيعي والصناعي، وهناك العشرات من أصناف السجائر التي تحوي الأمونيا التي هي النشادر، والتي تضاف عادة إلى منظفات دورات المياه التي هي المراحيض، وتضمن الأمونيا وصول أكبر كمية ممكنة من النيكوتين إلى الدم والمخ.
ما يقوله العلماء والأطباء وحتى أشخاص شغلوا مناصب عليا ثم تخلوا عنها في الشركات التي تقف وراء منصات التواصل، هو أن كل ما يرد عبرها يجعل من الممكن إعداد ملفات شخصية لكل فرد بحيث يتم تحديد اهتماماته وميوله العامة فيصبح بعدها ممكنا توجيه رسائل معينة إليه بأسلوب يتفادى الدعاية المباشرة ويضمن وقوعه في "الإدمان"،
وربما لا بأس في استخدام تلك المادة في السجائر، طالما أن الدخان يصل إلى الرئة فيجعلها متسخة، وبما أن المواد التي تلوث دورات المياه موجودة أصلا في جسم الإنسان، فإن المدخنين ينعمون بأجهزة هضمية معقمة لأن أجسامهم مشبعة بالأمونيا، أما الكاكاو فإنه يضاف إلى السجائر لأنه يحوي مادة ثيوبرومين التي تؤدي إلى توسيع الرئة وتزيد الرغبة في الاستزادة منها.
وعودا إلى موضوع الفيلم آنف الذكر لابد من الإشارة إلى أنه يفوت علينا ونحن نستفتح نهارنا ونختم مساءنا يوميا بالإطلال على رسائل واتساب، ونسعد بإمكان التواصل الصوتي عبر ذلك التطبيق، وكل ذلك بدون مقابل مادي، أن نسأل أنفسنا: هل الجهة التي تقدم خدمة واتساب فاعلة خير لا تريد جزاء ولا شكورا؟ ماذا تجني من وراء ذلك؟ ومنذ متى كانت شركة أمريكية تقدم خدمة لجميع شعوب العالم مجانا؟ وإذا كان في الحكاية "إنَّ"، فما هي تلك الـ "إنَّ"؟
وما يقوله العلماء والأطباء وحتى أشخاص شغلوا مناصب عليا ثم تخلوا عنها في الشركات التي تقف وراء منصات التواصل، هو أن كل ما يرد عبرها يجعل من الممكن إعداد ملفات شخصية لكل فرد بحيث يتم تحديد اهتماماته وميوله العامة فيصبح بعدها ممكنا توجيه رسائل معينة إليه بأسلوب يتفادى الدعاية المباشرة ويضمن وقوعه في "الإدمان"، وهل منا من لم يفتح تطبيق واتساب وهو يقف عند إشارة مرورية لأن صبره عيل بعد انتظار طويل لثلاث دقائق في انتظار ظهور الإشارة الخضراء؟ وهل بعد هذا من إدمان؟
ثم أليس كل ذلك هو نفس حكايتنا مع المكرونة، والتي هي نشويات ينبغي الإقلال من تناولها، ولكننا نقوم بتلغيمها بالبشاميل فنضيف الى نشوياتها دهونا ثم نتغزل بمحاسنها؟ فإذا كنا نمارس خداع الذات طوعا فما الغريب في أمر وقوعنا في حبائل خداع تقف وراءه شركات عملاقة لديها موارد فنية ومالية ضخمة تكرسها لاجتذابنا صوب منتجاتها؟
الدبلوماسية القصوى.. هدايا بايدن لإيران مبكّراً
مؤسسية الفساد، وعبثية الإصلاح!