قضايا وآراء

الإسلاميون وخصومهم.. التوظيف الانتهازي للعلاقة بـ"إسرائيل"

1300x600
لعلكم تذكرون الضجة والهجوم الإعلامي الشرس على الرئيس د. محمد مرسي -رحمه الله - بسبب رسالة منسوبة إليه موجهة إلى شمعون بيريز، رئيس الكيان العبري آنذاك، وبغض النظر هل كانت الرسالة مزورة أم بروتوكولية شكلية، فإن أوداج القوم قد انتفخت وهم يشتمون ويؤنبون د. محمد مرسي بسببها؛ إذ كيف تخاطب بيريز بكلمة "عزيزي"؟ وتم اتخاذ الرسالة المزعومة منصة لتخوين الرئيس هو والإخوان المسلمين، وصولا حتى إلى حركات مقاومة (مثل حماس) كانت وما زالت تضغط على الزناد.

وصلات الردح بسبب تلك الرسالة لم نشهد للقائمين عليها أي موقف له اعتبار أو قيمة فيما جرى بعدها (سنغض الطرف هنا عن مرحلة مبارك)، وخاصة رعاية وتشجيع وانغماس عبد الفتاح السيسي في علاقات ودية تحالفية مع الكيان العبري؛ ولا ننسى أن مصطلح "صفقة القرن" كان اختراعا سيساويا مميزا، كما أن اتفاقيات التطبيع أواخر فترة رئاسة ترامب بين الكيان العبري وبعض الدول العربية، كانت تحظى بتأييد فوري علني من السيسي، وكأنه يريد أن يحوز على قصب السبق في الترحيب بالتطبيع.

ولكن الأبواق والشخصيات التي كانت تلبس ثوب الوطنية والقومية، ولم تبق في قاموس الشتم والمزايدة كلمة أو وصفا قبيحا إلا وأضافوه إلى اسم مرسي ومن معه أو من يحبه، أو من يرى ضرورة أن يعطى فرصة؛ وذلك بسبب الرسالة المزعومة، أيضا لأنه - وفق المزايدين - كان عليه أن يعلن الحرب على إسرائيل وإلغاء اتفاقيات كامب ديفيد.

وكأن مخزون الوطنية والقومية قد نضب وجفت منابعه عند القوم منذ وصول السيسي بانقلاب عسكري مكتمل الأركان إلى حكم مصر، فليس هناك أي انتقاد أو همس ولو ببنت شفة ضد الخطوات والإجراءات التي قام بها السيسي في التقارب السرّي والعلني مع إسرائيل، الذي أصلا بدأ بتنفيذها فعليا بالتزامن مع انقلابه، حيث فرض حصارا محكما على قطاع غزة، وأنشأ مناطق عازلة على الحدود. وفي استغفال أو "استهبال"، كان متشدقو المزايدة على مرسي يروّجون أن السيسي يريد من حصاره لقطاع غزة الحفاظ على أمن مصر القومي وسيادتها.. إلى آخر تلك الشعارات الواهية.
أمام تأييد السيسي العلني للتطبيع العربي مع الاحتلال، رأى القوم أن الأفضل حاليا هو الصمت، ولكن أمام هذه الحالة وجبت المقارنة بين تصرفاتكم وأقوالكم أيام مرسي وبين موقفكم الحالي الصامت؛ لأن السيسي لم يترك لكم مجالا ولا ثغرة تتأولونها لتدافعوا عنه أو تزينوا له كما فعلتم بعيد انقلابه

ولكن، أمام تأييد السيسي العلني للتطبيع العربي مع الاحتلال، رأى القوم أن الأفضل حاليا هو الصمت، ولكن أمام هذه الحالة وجبت المقارنة بين تصرفاتكم وأقوالكم أيام مرسي وبين موقفكم الحالي الصامت؛ لأن السيسي لم يترك لكم مجالا ولا ثغرة تتأولونها لتدافعوا عنه أو تزينوا له كما فعلتم بعيد انقلابه. اللهم إلا باعتبار أن هذه خطوات اضطرارية تكتيكية إلى حين تمكن السيسي من النهوض بمصر وحلحلة مشكلاتها؛ وكأن التكتيك والمناورة حلال ومباحة فقط لمن أتى بانقلاب مشبوه، ومحرمة على المنتخب بطريقة نزيهة..! مع أن السيسي هذه استراتيجيته وأوكسجين بقائه، ولا علاقة للمناورة والتكتيك بما يفعله.

في ظل هذه المعادلة البائسة، لا بد لنا أن نقول؛ إن موقفكم المعادي لمرسي وتياره وأحبته؛ مردّه إلى حقد أيديولوجي وسياسي، وليس بدافع العداوة للمشروع الصهيوني ونزعات وطنية وقومية عروبية، والدليل ما أوردته في السطور السابقة وهو غيض من فيض.

وعليه، لا يمكن قبول ادعاءاتكم ومزايدتكم على أي طرف نعلم يقينا أنه مبغوض عندكم بسبب أيديولوجيته أو مواقف سياسية معينة، فتقومون بفتح ملف علاقاته مع إسرائيل ومحاولة إظهار أن كراهيتكم له تعود إلى هذه المسألة، وأن المكروه والمبغوض لو اتخذ من إسرائيل موقفا متصلبا فلا عداء معه، ولا مشكلة.
هذا الادعاء يسقط ويصبح غير ذي قيمة، عندما نعيد مراجعة الموقف من د. محمد مرسي، فهذا هو الميزان والمعيار الذي يبرهن على زيف دعوى القوم

ولكن، هذا الادعاء يسقط ويصبح غير ذي قيمة، عندما نعيد مراجعة الموقف من د. محمد مرسي، فهذا هو الميزان والمعيار الذي يبرهن على زيف دعوى القوم. وأنا قياسا على ذلك أقول؛ إنه لو نجح الانقلاب العسكري في تركيا صيف 2016 - والعياذ بالله - فإنه من المؤكد أن الانقلابيين سيكونون في حالة عشق مع الكيان، ويبنون معه تحالفا معاديا للمقاومة، بل لأي شيء من شأنه الدفاع عن كرامة الأمة، وما كنا سنجد القوم يعيبون على الانقلابيين، مثلما حالهم مع أردوغان اليوم والأمس، حيث يسلكونه بألسنة غلاظ.. فإذا قلتم: أوَ ترجم بالغيب؟ قلت: بل أضع ميزان القياس المناسب للمزايدين باسم العداء للكيان العبري بدثار القومية أو الوطنية، وأي ميزان أصلح للموقف من د. محمد مرسي، مقارنة مع موقف القوم من تحالف السيسي المكشوف الذي لا يقبل المراء مع الكيان العبري، بحيث تبدو كامب ديفيد شيئا بسيطا مع ما قام ويقوم به. فبهذا نفهم موقفهم من أردوغان، فالقوم أعماهم الحقد، ولكنهم يريدون التستر بمقاومة لا يخوضون غمارها، بل ينتقصون ممن يقبض على جمرها.

فلا اعتبار لحديث القوم عن العلاقات التركية- الإسرائيلية وحجم التبادل التجاري بين الكيان وتركيا في عهد أردوغان، أو التذكير بما هو معروف من كون تركيا عضوا في حلف الناتو وجيشها ثاني أكبر جيش فيه. ولا اعتبار لحديثهم عن قاعدة العديد أو السيلية في قطر، أو هجومهم الأخرق على د. يوسف القرضاوي، بعرض صور له مع حاخامات من ناطوري كارتا، وهي حركة ضد الصهيونية أساسا، في وقت تجاهلوا تأييد الشيخ ودعمه للمقاومة وأدواتها وأساليبها العسكرية.

فلو أن الرئيس أردوغان والأمير تميم طردا قادة وعناصر حماس والإخوان المسلمين، وأغلقا مكاتبهم ومؤسساتهم في تركيا وقطر، وأعلنا أن هؤلاء باتوا في قائمة ما يسمى الإرهاب، ثم صارا ضيفين دائمين على نتنياهو وسائر الصهاينة، ودشن كل منهما تحالفا عسكريا مع الجيش الإسرائيلي، بالتزامن مع التواصل الدافئ مع السيسي، فإن المزايدين على تركيا وقطر الآن سيصمتون وقد يبررون. فهم لا يتكلمون بدافع كراهية الصهاينة، ولكن ميزانهم هو أن كل من يبني علاقة ودية أو حتى حيادية مع حماس والإخوان المسلمين عدوّهم بالضرورة، ويتم استحضار ذخيرة لهذا العداء غلافها العداوة للتطبيع. وأذكّر بما كان مع مرسي ثم ما صار مع السيسي!

وهنا، لا بد لي من التأكيد، منعا لأي تأويلات؛ بأن التطبيع بل أي علاقة من أي مستوى بين أي طرف من الأمة والكيان الصهيوني مرفوضة قطعا، ولا يجوز لي أنا الفلسطيني تبريرها، سواء قام بها عربي أو تركي أو كوسوفي، تحت أي ظرف، فهذا شيء ثابت تماما عندي، إنما لن أكون مغفلا، بحيث أصطف في خندق من ليس مبدؤه الأساس رفض التطبيع، بل تحركه الكراهية التي يحاول أن يزينها بصبغة تبدو وكأنها تتوافق مع مبدئي الثابت.

أما بعض هؤلاء القوم بعدما انكشفوا، فقد لجأوا إلى أسلوب المساواة والتعميم بالقول: كل الأنظمة بعضها مثل بعض في تعاطيها مع شعب فلسطين وقضيتها؛ وأرد عليهم بلا تردد: والله ما أنصفتم ولم تنطقوا بالحق؛ فشتان بين من يذل المسافرين ومنهم المرضى والطلبة ويبتزهم ويتعمد جعل مشوار من بضع ساعات؛ عذابا يستمر أياما، ومن يحاول قطع شرايين الحياة عن غزة بإغلاق المعبر وإغراق الأنفاق، ومنع قوافل المساعدات، وبين من يقدم لها شيئا تسد رمقها. ولا نساوي بين من يتعامل معنا باحترام كرامتنا الآدمية عوضا عن رابطة الدين والعرق، وبين من يمعن في إذلالنا. ومن الحماقة والظلم أن نساوي بين من يسمح بشتمنا من سفهائه (وربما هو حرّضهم)؛ وبين من يجعل منابره الإعلامية ساحة لنا لفضح الاحتلال وإبداء وجهة نظرنا.

فأصحاب النوايا الطيبة الغاضبون من التطبيع، عليهم أن يحذروا ويميزوا بين من يهاجم التطبيع بدافع الحقد على سياسات وعلاقات معينة، وبين من موقفه المبدئي الثابت هو رفض التطبيع، وألا ينجروا إلى حماقة المساواة بين المواقف ووضع الجميع في سلة واحدة، حتى يأتي أمر الله.