اهتزت السوشيال ميديا في
مصر رافضة قيام المخابرات بإنتاج دراما "
الاختيار 2"، في محاولة جديدة لتزييف التاريخ المعاصر والضرب على أوتار العاطفة الجماهيرية نحو الشرطة، كما حدث من قبل في دراما "الاختيار 1" والتي تناولت ضباط الجيش.
وفي مقاربة ذهنية، تخاطب العقل قبل العاطفة، كان تصور عرض
أحوال الأطباء والأطقم الطبية في دراما واقعية، بدأت أحداثها منذ اليوم الأول لبيان منصة الانقلاب العسكري في مصر يوم الثالث من تموز/ يوليو عام 2013، حيث تم تعطيل الدستور وحل مجلس الشورى الذي كان بصدد إصدار كادر المهن الطبية؛ بما يحفظ لجميع أفراد الأطقم الطبية حقوقهم المادية والمعنوية في حياة كريمة وبيئة صالحة للعمل، لتبدأ بعدها بأسابيع قليلة عمليات البطش والقتل والحبس والتشريد والتنكيل بالمصريين ومن بينهم أفراد الأطقم الطبية، وكان حرق المستشفى الميداني في ميدان رابعة العدوية معبرا عن ذروة المشهد الإجرامي نحو المرضى والأطباء على حد سواء.
واستمرت الضربات الأمنية تتوالى، واتسعت دائرة الاعتقالات السياسية بين صفوف
الأطباء، واضطر عدد كبير منهم للبحث عن خيارات الأمن والأمان. وكان "الاختيار 1" هو الفرار إلى مدن وقرى أخرى داخل مصر بهدف الاختفاء بعيدا عن المتابعات الأمنية وخشية الاعتقال، أو الفرار الى دول أخرى خارج الوطن طلبا للجوء السياسي بعيدا عن الاضطهاد تحت وطأة القمع والاستبداد. كانت البدائل قليلة لعدد محدود من الدول، في ظروف هروب قسري دون أية تجهيزات، ودون البحث عن تأشيرة دخول، ودون أية ضمانات لوجود فرص قد تسمح لهم باستمرار مزاولة عملهم الطبي.
وبالرغم من تاريخ شعب مصري يتميز بالرغبة في الانتظام بالعمل الحكومي بصورة عامة لدرجة أنه توجد أغاني وأهازيج فولكلورية تتغنى بذلك؛ إلا أن الأطباء بدأوا المعاناة مبكرا، وكانت الاستقالة والسفر إلى الخارج هما الخيار المتاح أمام طبيب مستشفى المطرية بعد تعرضه للاعتداء من أحد أفراد الشرطة المصرية، وسط تراخ حكومي ونقابي مهين، رغم احتشاد أكثر من ثلاثة عشر ألف طبيب في أضخم جمعية عمومية تشهدها النقابات المهنية في مصر تحت شعار "جمعية الكرامة" في شباط/ فبراير عام 2016. وما زالت الاعتداءات مستمرة على الأطباء من أهالي المرضى لسبب رئيس، وهو ضعف البنية التحتية ونقص الإمكانيات رغم ما يبذله الأطباء من جهد ذهني ومجهود بدني.
جاءت جائحة فيروس كورونا المستجد ليجد الأطباء أنفسهم وقد سقطوا بين مطرقة كورونا وسندان المنظومة الطبية الفاسدة، والتي شملها فساد البنية التحتية وفساد الإدارة وفساد بيئة العمل
وكانت البنية التحتية المنهارة ونقص التجهيزات وضعف العائد المادي الحكومي هي الدافع عند آلاف الأطباء للسعي الجاد نحو "الاختيار 2"، وهي الاستقالة من وزارة
الصحة والتوجه للعمل بالقطاع الخاص داخل مصر، أو السفر إلى دول الخليج للعمل أو إلى دول أوروبا وأمريكا وأستراليا طلبا للدراسة والعمل. واستمر نزيف الكفاءات المصرية يتزايد بكثافة غير مسبوقة، لدرجة أن وقفت وزيرة الصحة المصرية تصرخ في منتصف عام 2018؛ معلنة خروج أكثر من ستين في المائة من أطباء مصر للعمل بالخارج، وبعدها أعلنت نقابة الأطباء عن استقالة أكثر من ثلاثة آلاف طبيب في العام التالي مباشرة، ليصل عدد من تقدموا باستقالاتهم إلى قرابة العشرة آلاف طبيب خلال الفترة من 3 تموز/ يوليو 2013 وحتى نهاية عام 2019، حيث أصبحت الاستقالة هي الهدف العاجل والمهم، والذي يمهد الطريق نحو البحث عن بيئة صالحة وآمنة ومناسبة لتقديم خدمة الرعاية الصحية للمرضى بجودة مناسبة.
وجاءت
جائحة فيروس كورونا المستجد ليجد الأطباء أنفسهم وقد سقطوا بين مطرقة
كورونا وسندان المنظومة الطبية الفاسدة، والتي شملها فساد البنية التحتية وفساد الإدارة وفساد بيئة العمل.
ودارت الأزمات متتالية تضرب صفوف الأطباء، بداية من الموت لنقص الواقيات والمستلزمات والمطهرات، وصولا إلى الاعتقال والحبس بتهمة الشكوى من الإهمال ونشر الإشاعات حول خطورة انتشار الوباء، وصولا إلى المساءلة الأمنية حول تقديم الاستقالات.
وهنا لم يكن أمام الأطباء سوى "الاختيار 3"؛ ألا وهو الهروب خارج مصر، حيث قام سبعة آلاف طبيب بترك مصر والهروب منها خلال عام 2020، وكان الاتجاه غالبا إلى أمريكا وأوروبا وأستراليا، بحثا عن مكانة علمية وسعيا وراء بيئة طبية صالحة للعمل، وهم يعلمون أن كورونا منتشر، وأن ظروف العمل شاقة، ولكن الهدف كان واضحا وهو الابتعاد عن وطن لا يوجد فيه من يفهم ويقدر أهمية الصحة، وبعيدا عن بيئة يشملها الإهمال والفساد والفشل.
تنبه الإعلام المصري إلى أن نسبة نقص الأطباء بلغت 67 في المائة، وراح الجميع يصرخون من أزمة نقص الأطباء
تنبه الإعلام المصري إلى أن نسبة نقص الأطباء بلغت 67 في المائة، وراح الجميع يصرخون من أزمة نقص الأطباء، وبدأت تصريحات المسئولين تدور حول زيادة عدد كليات الطب، وضمان زيادة أعداد الخريجين. وهناك من ردد مقولة السيسى بخصوص تخريج دفعات استثنائية من الأطباء، وزاد بعضهم واقترح منع سفر الأطباء للخارج، ووقف تجديد الإجازات لمن هم في الخارج فعلا. ومن الواضح أن الاقتراحات جميعا تدور في فلك عدم الفهم لطبيعة المشكلة، وهي هروب الأطباء بعيدا عن البيئة الفاسدة للعمل، ونقص الموارد المالية والاعتداءات المتكررة من المواطنين، ونقص التجهيزات والمستلزمات نتيجه ضعف الإنفاق المالي الحكومي على الصحة.
وفي مواجهة التعنت الحكومي بتحويل الاستقالة إلى الجهات الأمنية، والتلويح بمنع الإجازات للسفر للخارج، ووضع قوائم المنع من السفر للمطاردين سياسيا، فهل يضطر الأطباء إلى البحث عن "الاختيار 4"؟ وكيف يكون هذا الاختيار ومن سوف يتحمل تبعاته؟