منذ أن دخل جو
بايدن البيت الأبيض والعالم أخذ يتنفس تدريجيا، رغم كل ما يقال عن السياسات الدولية، وأنها محكومة بآليات وموازين قوى، إلا أن ذلك رغم أهميته لا يقلل من تأثير الأفراد وأمزجتهم وأفكارهم وطموحاتهم وحساباتهم الصغيرة على الأوضاع، وأحيانا على العالم إذا كان هؤلاء يحكمون في دول كبرى. لقد تنفس العالم الصعداء بخروج ترامب من لعبة السياسة، لأنه رفض احترام قواعد التعامل العقلاني مع العالم ومع الطبيعة، وظن بكونه الأقدر على إعادة صياغة الحياة البشرية وترتيب المنظومة العالمية بالقوة والعنجهية.
فجأة، أخذت الملفات الملغومة والمعقدة تنحل الواحد تلو الآخر. عادت الأسرة الخليجية إلى الالتفاف من جديد حول خيمتها السابقة، فتفحت الحدود، وتعانق الخصوم، وعاد كل سفير إلى سفارته، وتوقفت طبول الحرب، وبدأ سلام جديد.
فجأة، أخذت الملفات الملغومة والمعقدة تنحل الواحد تلو الآخر. عادت الأسرة الخليجية إلى الالتفاف من جديد حول خيمتها السابقة، فتفحت الحدود، وتعانق الخصوم، وعاد كل سفير إلى سفارته، وتوقفت طبول الحرب، وبدأ سلام جديد
ما إن استلم وزير الخارجية الأمريكي مكتبه بوقت وجيز، حتى بدأ الوضع ينفرج داخل
ليبيا، ويحصل ما كان مستبعدا وقوعه من قبل. تم انتخاب قيادة جديدة لتنظيم البيت الداخلي الليبي خلال عشرة شهور، تتوج بتنظم انتخابات رئاسية وتشريعية في شهر كانون الأول/ ديسمبر القادم. وبدل أن يغضب الخاسرون ويعلنوا التمرد على النتائج، حصل العكس تماما، حيث تقبلوا جميع النتائج التي أسفر عنها اجتماع جنيف، وتم تزكيتها من كل الأطراف التي كانت تتخاطب بلغة الطائرات والدبابات، وإذا بها تكبت أحقادها السابقة، وتبدي استعدادا لطي الصفحات المؤلمة، رغم استمرار التحديات والصعوبات وثقل التركة.
على صعيد آخر، تم الشروع في تفكيك اللغم الكبير الذي كاد أن ينفجر في قلب الشرق الأوسط قبل أسابيع قليلة من نهاية عهدة دونالد ترامب. إنه
اللغم الإيراني المشتعل والمعقد الذي كانت تستعمله إسرائيل بخبث من أجل ابتزاز الجميع، وهو لغم متعدد الرؤوس، من بينها المأساة اليمنية التي طالت كثيرا وأعادت البلد إلى ستين عاما خلت، حيث بلغت ذروتها ولم يعد بالإمكان التغافل عنها وعدم التحرك لإطفاء الحريق. لهذا السبب وصل المبعوث الأممي الخاص باليمن، مارتن غريفيث، إلى طهران؛ لإجراء مباحثات مع كبار المسؤولين
الإيرانيين بشأن معالجة الوضع في اليمن.
ما كان ليحصل ذلك لولا شروع الخارجية الأمريكية في فتح ثلاثة ملفات متشابكة: ملف
العلاقات السعودية اليمنية بما في ذلك مسألة
تعليق بيع الأسلحة لكل من الرياض وأبو ظبي، ويتعلق الملف الثاني
برفع جماعة الحوثي من قائمة الإرهاب بعد أن تسببت تلك القائمة في تدمير اليمن وسقوطه في أخطر مأساة تصيب شعبا في هذا الظرف، وأخيرا إعلان الإدارة الأمريكية عن استعدادها لإعادة الحوار مع الإيرانيين حول الملف النووي، بعد أن قلبت الإدارة السابقة الطاولة وألغت مسارا طويلا بجرة قلم.
فتح ثلاثة ملفات متشابكة: ملف العلاقات السعودية اليمنية بما في ذلك مسألة تعليق بيع الأسلحة لكل من الرياض وأبو ظبي، ويتعلق الملف الثاني برفع جماعة الحوثي من قائمة الإرهاب
تحركت جميع هذه الملفات ضمن حزمة واحدة، ووجدت تفاعلا سريعا من قبل الجميع الذين كانوا من قبل على أتم الاستعداد لخوض الحروب في كل مكان، وإنفاق الثروات الطائلة دفاعا عن النفس ومحاولة إسقاط الخصم بالضربة القاضية، فإذا بيد عاقلة وهادئة تحيط برقابهم، وتمسح فوق رؤوسهم، وتشعرهم بأن الطريق قد تغير، وأن العالم سيسلك وجهة مختلفة. هكذا تدار السياسة الدولية.
أمام
هذه المتغيرات، أصبح من الضروري أن يتحسس الجميع أقدامهم، وأن يعيدوا حساباتهم العاجلة والآجلة، وأن يفكروا معا في الاختيارات البديلة التي من شأنها أن تعيد توازنهم الاستراتيجي، وتمكنهم من إعادة رؤوسهم إلى موقعها السليم، وأن يحموا مصالحهم من جديد؛ فبقاء الحال من المحال. وبعد أن كانت الإدارة الأمريكية السابقة تعتبر أن تحقيق أهدافها يتم من خلال إشعال الحرائق، وخلق الفتن بين الأشقاء، وإثارة الشكوك فيما بينهم من أجل ابتزازهم، حلت إدارة أخرى تعتقد بأن المصالح نفسها يمكن أن يتم الحصول عليها وحمايتها بطرق أخرى وبكلفة أقل، دون اللجوء إلى تهديد السلم العالمي أو الإقليمي، أو تحويل أمريكا إلى غول يخشاه الجميع.
المهم الآن، أن تسعى الدول العربية نحو الحيلولة دون الانتكاس إلى الخلف والعودة بسرعة إلى أجواء التوترات وتشغيل المؤامرات. الجميع في حاجة إلى هدنة، والجميع في حاجة إلى مراجعة الذات. إن شعوب المنطقة ملت أجواء الحرب، وتعبت من حالات الاحتقان، وأصبحت تنتظر بفارغ الصبر أن ترى بصيصا من الأمل، وأن تفرح عندما تلمس ملامح مشاريع جديدة تنجز على الأرض لصالح الشعوب والأوطان، بعد أن خنقها دخان النيران التي تصاعدت ألسنتها في السماء بفضل الأموال الضخمة التي احترقت وذهبت سدى.