كتاب عربي 21

"الآخر" الذي يهدد قيم أمريكا والغرب

1300x600
منذ أن ولج الغرب عصر التنوير في نهايات القرن السابع عشر، كما ذهب مفكروه إلى تسميته، وهم يتصرفون مع بقية العالم باعتباره هوامش للنطاق المركزي الأوروبي، والأمريكي الأوروبي في الوقت الحالي، بعد أن انتقلت بؤرة ذلك المركز من أوروبا عبر المحيط الأطلسي إلى أمريكا.

ومنذ ذلك الوقت وحتى اليوم، ما زال الغرب يرسم سياساته، ويحيك تدابيره للمستقبل ليضمن استمرار فلسفة النطاق المركزي، رغم ما استتبعها من حملات كولونيالية واستعمار وحروب إبادة ونهب لثروات الأمم الأخرى.

على أن ما حملني على هذا القول، هو أول تصريح من الناطقة باسم البيت الأبيض ردا على دعوة من الرئيس الصيني "شي بينغ" للغرب للتعاون، وقبول تعددية الأطراف، والكف عن سياسة تجويع الآخرين، واحتكار التنمية في محيط الأنا الغربية دون غيرها، والتوقف عن ممارسات عقلية الحرب الباردة ولعبة محصلة الصفر، وانتهاج سياسة الربح للجميع.

ردت الناطقة الديمقراطية الجديدة باسم البيت الأبيض "جن ساكي" ببرود على دعوة "شي بينغ" أو صبت عليها ماء باردا كما يقولون بالإنجليزية. ولعل ما يلفت النظر قولها: "إننا نخوض منافسة خطيرة مع الصين. وهذه المنافسة الاستراتيجية مع الصين ستكون هي السمة المحددة لسيرورة القرن الحادي والعشرين. فسلوك الصين يضر العمال الأمريكيين، ويثلم حدة تفوقنا التكنولوجي، ويهدد تحالفاتنا ونفوذنا في المنظمات الدولية".

وخلصت المتحدثة في الختام إلى تعبير "الصبر الاستراتيجي" الذي صاغته إدارة باراك أوباما لوصف نهجها في التعامل مع كوريا الشمالية وبرنامج سلاحها النووي. ويبدو أن إدارة "جو بايدن" ستلتزم النهج نفسه في السنوات الأربع المقبلة في تعاملها مع الصين.

قالت ساكي: "إن الصين تتحدي اليوم أمننا وازدهارنا وقيمنا بأساليب جوهرية تستدعي نهجا أمريكيا جديدا.. نريد أن نتعامل مع هذا بقدر من الصبر الاستراتيجي".
ماذا يعني القول إن المنافسة بين الصين والولايات المتحدة هي ما سيسم طبيعة القرن الحادي والعشرين؟ وماذا يعني الحديث عن تحدي الصين لقيم أمريكا ولتفوقها التكنولوجي؟

وقد أثار هذا المصطلح منذ أن طرحته إدارة أوباما كثيرا من الجدل، بين مؤيد له يرى أن سياسة الصبر على الخصم والتعاطي معه بحكمة لعله يغير من سلوكه، أفضل من سياسة المواجهة النشطة والمباشرة وما تنطوي عليه من مخاطر، ومعارض يرى أن "الصبر الاستراتيجي" قد يتحول إلى "السلبية الاستراتيجية"، إن لم تكن هناك سياسة نشطة رادعة، تجعل الخصم يعدل سلوكه بما يتواءم مع منافسه.

على أي حال ليس هذا الجدل هو ما يهمنا، بل ما جاء في تصريح الناطقة من مواقف تثير جملة من التساؤلات، وبواعث القلق والتوجس من المستقبل.

فماذا يعني القول إن المنافسة بين الصين والولايات المتحدة هي ما سيسم طبيعة القرن الحادي والعشرين؟ وماذا يعني الحديث عن تحدي الصين لقيم أمريكا ولتفوقها التكنولوجي؟

فأن تخطط الدول لمستقبلها، وتعرف منافسيها، وتستعد لقادم الأيام، هو ما ينتظر من تلك الدول، خاصة إن كانت دولة أعظم مثل الولايات المتحدة، وليس دولة من فئة الدول التي لا تخطط إلا لكيفية تشديد قبضة أجهزة مخابراتها على شعوبها، كما هو حالنا.

لكن كيف يمكن للقائمين على الولايات المتحدة أن يعرفوا كيف ستؤول حركة التدافع البشري، وكيف ستستقر سنن السيرورة التاريخية، ولمَّا ينقض من القرن الحادي والعشرين إلا عشرون عاما!

ومن يراجع التاريخ بتدبر وروية، يدرك أن كثيرا من حسابات الإمبراطوريات الغابرة واستشرافاتها المزعومة خابت، وأُتي أصحابها من حيث لم يحتسبوا، بعد أن أعمت بصائرهم غطرسة الأقوياء، وظنوا أنهم مانعتهم سطوتهم وحصونهم.

فكيف يمكن لأحد، أو دولة أو أمة، أن تضع العربة أمام الحصان وتوقف سنن التدافع بين الأمم صعودا وهبوطا؟

كيف لأمة أن تتيقن أن ما من أمة أخرى غيرها، لن يقدر لها أن تأخذ بأسباب القوة والتقدم، فتصبح منافسا ثانيا وثالثا أو رابعا؟ نعم تعودنا، قديما وحديثا، أن نرى قطبين عظيمين يسوسان العالم في فترات من التاريخ. لكن عالمنا اليوم، والأمريكيون أدرى الناس بذلك، تختلف شروط وأدوات ووتيرة سرعة نشوء وارتقاء وانحسار القوى فيه عما سبق، بالإذن من "تشارلز داروين"، إذ نضع مصطلحه في ميدان غير ما وضعه فيه.

أم هو ما ينتهجه الغرب، منذ زمن ليس بالقصير، من سياسة رؤية الذات وتصور المستقبل في مرآة الآخر، الذي يصور على أنه عدو ينبغي أن يُكبح تقدمه بكل أدوات السلم والحرب، فلا ينافس، أو يكون تابعا للغرب يرسم حركاته وسكناته، عن بعد وعن قرب، فلا يتحرر ولا يكون، كما هو حالنا اليوم نحن العربَ.
لماذا ينبغي للصين، وهي التي ذاقت ويلات الغزو والاستعمار وحرب الأفيون في القرن التاسع عشر، الذي تسميه في أدبياتها بقرن الذل، ألا تنافس ولا تتقدم، ليظل القرن قرن أمريكا والغرب؟

لماذا ينبغي للصين، وهي التي ذاقت ويلات الغزو والاستعمار وحرب الأفيون في القرن التاسع عشر، الذي تسميه في أدبياتها بقرن الذل، ألا تنافس ولا تتقدم، ليظل القرن قرن أمريكا والغرب؟ أم هي العقلية الاستعمارية التي لا تريد أن تعترف بواقع العالم اليوم، ولا تريد لمعادلة القوة والمعرفة إلا أن تظل أداة في يدها، لتأبيد النهج الكولونيالي، متسترة برغاء الحديث عن الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان والحداثة وما بعدها!

فالصين، كما قالت الناطقة باسم البيت الأبيض "تثلم تفوقنا التكنولوجي". أوَ ليست هذه من سنن المدافعة، التي بفضلها تنتقل المعارف من أمة إلى أخرى وتتعدل تبعا لذلك موازين القوى، فلا تفسد الأرض، ولا يظل الطغاة على قمة الجبل، يقتلون ويُجَوِّعون من هم في الوادي العميق دونهم؟

إذن فلماذا تخشى أمة أن تكون المنافسة ومآلاتها، لصالح أي من أطرافها، خطرا على أمنها وقيمها؟ أوَ ليست المنافسة في كل الميادين، اقتصادا وعلما ورياضة وفنا من صميم قيم التنوير والحداثة التي يتغنى بها الغرب، ويريد للعالم أن يسير في ركابها؟

في آخر عدد لها، حذرت مجلة الإيكونوميست البريطانية العريقة من عواقب انتشار السلاح النووي في أيدي دول أخرى غير الدول التسع التي تمتلكها الآن، ومنها إسرائيل. يقولون لنا إن من قد ينضمون إلى النادي النووي قد يستعملون السلاح بتهور أو بلا مبرر. أوَ لم تكن أمريكا هي أول من استعمله، وهي اليوم الأكثر إنفاقا على تطوير سلاحها النووي؟
لماذا لا يجوز لأحد أن ينافس ويتجاوز ما بلغته أمريكا والغرب من العلم والتكنولوجيا؟ ذلك لأن الغرب يعلم أن بلوغ معادلة القوة والمعرفة المنتجة سلاح قادر على قلب الموازين

لماذا لا يجوز لأحد أن ينافس ويتجاوز ما بلغته أمريكا والغرب من العلم والتكنولوجيا؟ ذلك لأن الغرب يعلم أن بلوغ معادلة القوة والمعرفة المنتجة سلاح قادر على قلب الموازين، لو قدر لأمة، مثل الصين، تمتلك مقومات نشوء وارتقاء الإمبراطوريات أن تمسك بناصية القوة والمعرفة، خاصة إن وعت تلك الأمة وأحاطت وأخذت بتدابير الغرب وأخلاقيات الحداثة وقيمها، إن جازت هذه التسمية لوصفها.

تنجز الصين اليوم من البرمجيات في شهر ما ينجزه السوق الأمريكي في عام، وسبقت في تطوير الجيل الخامس من أنظمة الاتصال فناصبوها العداء، وزعموا أنها تهدد صحة الناس. وهي تنافس في غزو الفضاء، وتستعد للهبوط على سطح القمر ويشككون في قدراتها.

وحين أورد هذه الأمثلة فإني لا أنحاز إلى جانب الصين، فعليها هي أيضا ما تقترفه من ظلم بحق الأنسان في إقليم زينغيانغ المسلم، الذي يعرف تاريخيا باسم تركستان الغربية، وغير ذلك من مثل ما يشبه ما تجترحه أمريكا والغرب.

ولعل مما يلفت النظر في تصريح الناطقة باسم البيت الأبيض قولها "إن الصين تهدد قيمنا". وهذه هي الأسطوانة التي تعودنا أن نسمعها من ساسة أمريكا والغرب ومفكريهم، وكثير من صحفهم ووسائل إعلامهم، وما ينتجونه من فنون بمختلف أشكالها، ويضيفون إليها أحيانا مقولة "طريقة حياتنا" (Our Way of Life).

لماذا ينبغي أن يكون الاختلاف في اعتبارات القيم، وطرائق العيش والحياة، بين أمة وأخرى، تهديدا لقيم وأساليب حياة أمة أخرى؟ أوَ ليس الغرب هو من يطالب باحترام التعددية، مع أن القيم الإنسانية، في الأصل، مشتركة ولا تختلف إلا في المعايير الهامشية التي تصطبغ بالمواريث الثقافية، وما تمليه البيئة من ميول وانحيازات؟

وأي قيم لدى أمريكا والغرب هي التي يهددها تطور الصين التكنولوجي والمعرفي؟ يبدو أن كل "آخر" في العالم يختلف عن الغرب يهدد قيمه، سواء كان متقدما وناهضا مثل الصين، أو متخلفا راكدا شأن معظم بلدان العرب والمسلمين. فهم في الغرب ما زالوا يرون في الإسلام والمسلمين تهديدا لقيمهم وطريقة حياتهم، كما نسمع ونقرأ في خطابهم اليومي.

هل تهدد الصين أو المسلمون قيم الديمقراطية والانتخاب الحر، واحترام كلمة غالبية الشعب التي تتداعى اليوم تحت مطرقة التعصب العرقي، وأوهام تفوق الرجل الأبيض، وأموال أصحاب المليارات والشركات العملاقة، ولم يهدأ بعد غبار "غزوة" مقر مجلس الشيوخ؟

هل تهدد الصين أو غيرها قيم الترابط الأسري؟ أم هو بالفعل قد تفكك ولم يعد له عند غالبية الأسر وجود، اللهم إلا حين يرحل الأب أو الأم، فيرتدي الأبناء والأشقاء والأحفاد البدلات السوداء عند حافات القبور، ويعبسون حزنا ما يلبث أن يتطاير، إذ يستدير أحدهم عائدا إلى حيث كان.

من يا ترى يهدد قيم عدالة التوزيع؟ أم هي أصبحت شيئا من الماضي بفعل سياسات الرأسمالية المتوحشة التي جعلت حفنة من أصحاب الشركات العملاقة تستحوذ على الثروة، ولم تترك لعامة الناس إلا النزر اليسير.
هي إذن قيم الرأسمالية المتوحشة والمنفعة المادية التي تنتهجها شعوب ودول عصر الحداثة وما بعدها في الغرب، ولا تتورع في سبيل استمرار تفوقها واحتكارها لمعادلة القوة والمعرفة ونشر تلك القيم، عن أي شكل من أشكال القهر والعنف "لتجويع جارك"

ولا يظنَّنَّ أحد أن بقية العالم ينعم بواقع قيمي أفضل من الغرب بكثير، فكل ما سبق نعاني منه جميعا، وقد سوقته وسائل الاتصال والتكنولوجيا بسرعة الضوء بفعل تلهف الناس على اقتداء الغرب حذو الحافر، إلا من رحم ربي، فيتهم بالرجعية والتخلف.

هي إذن قيم الرأسمالية المتوحشة والمنفعة المادية التي تنتهجها شعوب ودول عصر الحداثة وما بعدها في الغرب، ولا تتورع في سبيل استمرار تفوقها واحتكارها لمعادلة القوة والمعرفة ونشر تلك القيم، عن أي شكل من أشكال القهر والعنف "لتجويع جارك"، كما قال الرئيس الصيني أمام دهاقنة دافوس.

لهفي على هذه الأمة التي ننتمي إليها! لو أنها تدرك ما لديها من المقومات البشرية ومقومات الجغرافيا والتاريخ والإرث الأخلاقي، التي يستلزمها نشوء وارتقاء الإمبراطوريات!