منذ أكثر من عامين وشوارع
العراق بعيدة عن آفة
التفجيرات التي حصدت أرواح آلاف الأبرياء لأكثر من ستّ سنوات، وكانت حصيلتها بالمئات يومياً!
والتفجيرات أسلوب الضعفاء، الذين لا يملكون ذرّة من الرجولة، أو التديّن، أو الأخلاق، وإلا كيف يمكن تفّهم قتل الأبرياء الفقراء المساكين وهم في أماكن عملهم بحثاً عن لقمة العيش؟
التفجير المزدوج الذي وقع في منطقة الباب الشرقيّ ببغداد يوم الخميس (21 كانون الثاني/ يناير 2021)، وخلّف أكثر من 35 شهيداً و113 جريحاً، أعاد لحياة العراقيّين مشاهد الرعب والدم والأشلاء!
الرواية الحكوميّة بخصوص الجريمة كانت غير ناضجة، والمتحدّث باسم وزارة الداخليّة خالد المحنا ذكر أنّ "الانتحاري الأوّل فجّر نفسه بعد أن ادّعى أنّه مريض واجتمع الناس حوله، والانتحاري الثاني فجّر نفسه بعد أن تجمّع الناس لنقل المصابين في التفجير الأوّل"!
بينما كانت رواية الناطق باسم القائد العامّ للقوّات المسلّحة يحيى رسول أنّ "
انتحاريّين اثنين فجّرا نفسيّهما حين ملاحقتهما من قبل القوّات الأمنيّة في منطقة الباب الشرقيّ ببغداد"!
فكيف يمكن تفّهم الاختلاف بين الروايتين الرسميّتين؟ وكيف تجمّع الناس حول شخص مطارد من قبل القوّات الأمنيّة، ولهذا فالرواية الثانية لا يمكن لعاقل تقبلها؟
ومع ذلك يمكن النظر للتفجير المزدوج من عدّة زوايا، ومنها:
- الدلالة السياسيّة: يأتي التفجير في وقت تزداد فيه المشاحنات السياسيّة بين غالبيّة القوى الحاكمة، ويحتمل بأنّها خطوة لخلط الأوراق، والتأكيد بأنّ القوى المالكة للمال والسلاح قادرة على إعادة البلاد إلى مربّع التفجيرات، إن تمّ استهدافها، أو عدم إعطائها الدور المطلوب في المرحلة المقبلة!
- الدلالة الزمانيّة: يأتي التفجير بعد أقلّ من 24 ساعة على تنصيب الرئيس الأمريكيّ الجديد جو بايدن، وهي رسالة عابرة للقارّات، وكأنّ المتحكّمين بالملفّ العراقيّ يريدون أن يوصلوا رسالة لواشنطن بأنّ استقرار العراق لا يكون إلا عبر بوّابتنا، ومَنْ يريد ترتيب المشهد العراقيّ يجب أن يتفاوض ويتّفق معنا، وإلا فإنّ مرحلة "فوضى الانفجارات" يمكن أن تحرق العراق من جديد لتعيده إلى مربّعات الموت والدمار والتهجير، وحتّى الحرب الطائفيّة!
وبداية العام 2017 ذكر طارق الهاشميّ نائب رئيس الجمهوريّة السابق؛ أنّ "لديه معلومات قاطعة بأنّ إيران تعبث بأمن العراق، وهي التي تخلق الفوضى من خلف الكواليس"!
- الدلالة المكانيّة: تتمثّل في كون التفجير وقع في ساحة الطيران، وهي ساحة متّصلة بساحة التحرير، قلعة المظاهرات التشرينيّة، وعليه، ربّما كانت الرسالة أنّ هذه الأماكن لم تعد آمنة للتظاهر، أو أنّنا قادرون على تفجيرها، بمَنْ فيها، في أيّ وقت نشاء، وهي رسالة سياسيّة من جهة، وترهيبيّة للمتظاهرين من جهة أخرى!
ومن جانب آخر هي حقنة لتغذية الاتّهامات الباطلة ضدّ المتظاهرين، وربّما، ستلصق الجريمة بالمتظاهرين لإجهاض حراكهم الشبابيّ الشعبيّ!
- الدلالة الجنائيّة: يؤكّد علماء "علم الجريمة" بأنّ مسرح الجريمة يُعدّ من أهم عوامل كشف الجريمة، حيث يعمل الخبراء على رفع أيّ دليل مادّي يوجد في منطقة الجريمة التي يفترض أن تطوّق لحين الانتهاء من رفع الأدلة المتوفّرة، ولهذا يفترض بالأجهزة الأمنيّة والدفاع المدنيّ نقل الضحايا، وتطويق المكان لحين وصول فريق الخبراء الجنائيّين للقيام بواجبهم!
إنّ دور الخبراء في فحص مكان الجريمة فحصاً فنيّاً دقيقاً ضروري جداً، لأنّهم قد يكتشفون أدلة تساعدهم في الكشف عن الأطراف المنفّذة للجريمة، أو القريبة منها، وقد يعثرون على آثار البصمات، وبقع الدم، والشعر، حتّى عبر الأشلاء المتبقّية بعد التفجير، وكذلك معرفة الموادّ المستخدمة في التفجير!
ومن هنا، فإنّ الذين قاموا بتنظيف مكان انفجار بغداد بعد ساعة من وقوع التفجيرين، قبل رفع أيّ أدلة جنائيّة، يؤكّدون أنّ هنالك قوى فاعلة تسعى لتغطية جريمتها، وإلا فما هي دواعي "التنظيف" لمسرح الجريمة قبل رفع الأدلة؟
إن تشكيل لجنة تحقيق حكوميّة مع تنظيف مسرح الجريمة يؤكّد إما الجهل الحكوميّ بقواعد التحقيق، أو الاستخفاف بدماء العراقيّين ومشاعر ذويهم!
العراقيّون سئموا من الوعود غير المُثمرة، ومن لجان التحقيق الضعيفة، وهم يحلمون، حقيقة، بغد مليء بالأمن والسلام والمحبّة!
فهل أحلامهم صعبة المنال في بلادهم المليئة بالأحزاب، والإرهاب، والصراعات المحلّيّة والدوليّة؟
twitter.com/dr_jasemj67