خرج محامي مصري على الناس بفكرة أطلق عليها اسم: زواج التجربة، خلاصتها: أن الزوجين يعيشان معا لمدة ثلاث سنوات، لا يحق لهما الطلاق قبل هذه السنوات الثلاث، وقد كتب العقد محام مصري، وقام بنشره في صفحته على الفيسبوك، ووضع فيه بنودا عجيبة، يتعارض معظمها مع بعضها تعارضا شديدا، مثل: أن يطلع كل طرف على كل ما لدى الطرف الآخر من خصوصيات وأسرار مالية، وشخصية، وتحديد عدد ساعات زيارة الأهل، وتفاصيل أخرى تتعلق بالحياة الشخصية لكل من الزوجين.
وبدأت مواقع التواصل الاجتماعي تتفاعل مع الموضوع، نقاشا وحوارا، وبدأت الأسئلة تصل للأزهر، ولدار الإفتاء المصرية، حول حكم الإسلام في مثل هذه الصيغة للزواج، وكنت قد سئلت في برنامجي (يستفتونك) عنه، فبينت ما يحرم منه، والشروط الباطلة التي اشتمل عليها العقد، وما يتعارض مع الشريعة من بنود، وما يتوافق معها، لكن الموضوع في مجمله مرفوض لأنه بوابة للتلاعب في منظومة الزواج كما أرساها الإسلام.
أصدر مركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية يوم الاثنين 18 يناير، فتوى يحرم فيها زواج التجربة، وأن اشتراط انتهاء عقد الزواج بانتهاء مدة معينة يجعل العقد باطلا ومحرما، وأن الزواج سماه القرآن الكريم: الميثاق الغليظ، وأن مطلقي ما يسمى زواج التجربة هم مبتدعون، وأن هذه الصورة فيها عدم صون للمرأة وكرامتها، وهي عامل من عوامل هدم القيم والأخلاق في المجتمع.
وكان رد دار الإفتاء المصرية عندما أثير الموضوع: أنها شكلت لجنة لتدرس الموضوع، ثم في اليوم التالي الثلاثاء 19 يناير أصدرت دار الإفتاء بيانا بينت فيه رأيها في زواج التجربة، انتهت فيه لنفس ما انتهى إليه الأزهر، وكتبت بيانا قويا كما الأزهر تماما، وربما زاد في تفصيلاته عن بيان الأزهر، من جهات عدة، قانونيا، واجتماعيا، وشرعا قبل ذلك كله.
لكن ما نقف معه هنا، هو أن ردود فعل الناس تجاه تصريحات دار الإفتاء بأنها تدرس الموضوع، كان غريبا، فالناس هاجمت الإفتاء، وأن الموضوع لا يحتاج لدراسة، وأن ذلك حيلة منها للهروب من قول الحق، وأنها ربما تريد أن تجامل، ونالني قسط من الهجوم، حيث إنني أشدت بموقف دار الإفتاء قبل إصدار فتواها، بأنها تدرس الموضوع من عدة جوانب، مما يجعلنا نقف مع الموضوع بعيدا عن الخلاف السياسي مع بعض فتاوى دار الإفتاء التي يتضح منها التسييس، فهل صدور بعض فتاوى عن جهة أو شخص يتم تسييس الفتوى فيها، يجعلنا نقف موقف الرفض لكل ما يصدر عنه؟ وهل إعلان جهة ما أنها تدرس الموضوع لتبدي رأيها، يجعلنا نهاجم لعلة مواقف معينة من الجهة؟!
إن ميزان رب العزة له كفتان، ويريد البعض للأسف أن يجعله كفة واحدة، لا ترى إلا الخطأ، ولا ترى إلا السيئات، وهو معيار لا يمت للحق والفهم الصحيح للدين بصلة، حتى لو كان موقف من يخالفك متطرفا فليس من الصواب أن نكون مثله، بل نتخذ الإنصاف معيارا وميزانا نزن به الأشخاص والهيئات.
فالحقيقة أن هذا التصرف لا ينم عن علم حقيقي، ولا إنصاف أو منهجية متزنة، فمنذ متى والأحكام تصدر على الجهات العلمية، أو الأشخاص، سواء اتفقنا معهم أم اختلفنا، بناء على مواقف مسبقة، أو مواقف لا نقبلها منهم؟ إن دار الإفتاء مؤسسة دينية، معنية بالأساس بهلال رمضان والعيدين، وأحكام الإعدام، هذا من حيث التعامل الرسمي، أما من حيث التعامل الشعبي، فهي إحدى الجهات المعنية بفتاوى الناس، والإجابة عنها.
فكم فتوى صدرت عن دار الإفتاء تتعلق بالسياسة والسلطة والمعارضة؟ بالنسبة والتناسب، أعتقد لن تصل أبدا إلى واحد بالمائة، ولست هنا أبرر أخطاء الإفتاء في هذه القضايا، بل أنا أول من يرد عليها عند صدورها، ولكن الموقف منها لا يدعو لرفض كل ما يصدر عنها، صوابا كان أم خطأ، وكثير من الناس حين يتصل بي للفتوى، ويكون لدار الإفتاء فيها رأي علمي، أدله عليه، فالإفتاء ـ شئنا أم أبينا ـ مؤسسة تعمل، ولها أدوات المؤسسة التي تعمل العمل الفقهي المتزن في معظم القضايا التي تتعرض لها، وليست عليها فيها ضغوط من هنا أو هناك، مشكلتنا معها في القضايا المسيسة، وهذه الناس تتجنب فتواها فيها بطبيعتها.
وما يقال عن دار الإفتاء، يقال عن شيوخها، ويقال عن مفتيها، فالشيخ الراحل الدكتور سيد طنطاوي، كم فتوى نختلف معه فيها، وكم نتفق معه؟ نختلف في القليل، ونتفق في الكثير، مع تنبيهنا وتحذيرنا من هذا القليل الذي نرى أنه لم يكن على صواب فيه، وعندما يتعلق الأمر بالتفسير، فالكل يسلم له بأنه متخصص وعالم كبير في التفسير.
والمفتي الأسبق الدكتور علي جمعة، خلافنا معه في مواقفه العدائية من معارضي النظام، منذ أيام مبارك، ولكن لا نختلف على علمه، شئنا أم أبينا، والمفتي الحالي نفس الحال، يقال عنه ما يقال عن سابقيه. فالبحث العلمي، والفتوى، لا تنظر فيهما إلى الأشخاص، بل تنظر إلى ما يقوله الأشخاص، ومدى اقتراب أو ابتعاد ما يقول من الشرع، بغض النظر عن القائل.
كنت أقلب في أرشيفي منذ فترة، فوقعت على رسالة خاصة بين الدكتور يوسف القرضاوي والمستشار عبد الله العقيل بتاريخ: 8 فبراير سنة 1967م، وقد كان في الستينيات مديرا لإدارة الشؤون الإسلامية بالأوقاف في الكويت، فطلب من صديقه القرضاوي ترشيح ضيوف من العلماء تستضيفهم الوزارة لإلقاء محاضرات، فوجئت بأسماء معروف موقفها من الإخوان، ومن تأييدها لعبد الناصر، ثم نوه القرضاوي بذلك، وبرره، فقال:
(وأحب أن أنبه على أن بعض من ذكرتهم قد تؤخذ عليهم ـ من الوجهة السلوكية ـ مواقف لانت فيها قناتهم للباطل المتجبر، فمالوا ـ قليلا أو كثيرا ـ عن صراط الإسلام السوي، ومنهج علمائه المستقيم، ولكن هذا ـ فيما أرى ـ لا يمنعنا من الانتفاع بهم في مناحي اختصاصهم، وليكن تعاوننا معهم في ما يتفقون معنا عليه، ولندع ما يخالفوننا ونخالفهم فيه، كغيرهم من الثقات المأمونين).
إن ميزان رب العزة له كفتان، ويريد البعض للأسف أن يجعله كفة واحدة، لا ترى إلا الخطأ، ولا ترى إلا السيئات، وهو معيار لا يمت للحق والفهم الصحيح للدين بصلة، حتى لو كان موقف من يخالفك متطرفا فليس من الصواب أن نكون مثله، بل نتخذ الإنصاف معيارا وميزانا نزن به الأشخاص والهيئات.
بل إننا نتمنى أن تتخذ دار الإفتاء في كل القضايا المعروضة عليها نفس المنهج، أن تعرضه على لجنة، تدرسه من جميع الاتجاهات، وأولها: قضايا الإعدامات، والقضايا السياسية، أو أن تتجنب الدخول في هذه القضايا بالأساس، وتنشغل بقضايا المجتمع والناس، تفتي فيها بما يهديها إليه الدليل، فهذا أولى وأفضل لبناء جدار من الثقة في فتواها، وكم يحزننا نظرة الناس إلى المؤسسات الدينية، وهي نظرة سلبية، نتجت عن انحياز بعض المؤسسات إلى السلطة بشكل فج، وبشكل يجانب الحق والصواب.
رأيت فيديو يعرض إنجازات لدار الإفتاء في عام 2020م، فوجدت ما يفيد علميا، إذا جنبنا ما نرفضه منها سياسيا، ولا أدري لصالح من أن تكون الصورة العالقة في الأذهان عن المؤسسة هي: فتاوى السلطة، بينما لديها كم هائل وكبير من الفتاوى الدينية العلمية، التي بذل فيها جهد كبير، وإصدارات فقهية مهمة، أليس من الخير للأمة والناس أن تستمر الإفتاء على هذا المنهج، وتبتعد بالدين والفتوى عن التحزب السياسي، ومغازلة السلطة، طمعا في بقائها، أو طمعا في وجود إعلامي لها؟!
إذا كنا نطالب المخالفين لدار الإفتاء والرافضين لفتاواها المسيسة، أن يكونوا منصفين فيأخذوا ما يصح، ويتركوا ما لا يصح، فالرسالة توجه للإفتاء كذلك، بأن يكونوا لسانا للفتوى، بمنهجيتها، وأصولها ومصادرها الأصيلة.
Essamt74@hotmail.com
هل غابت النكتة السياسية في عهد السيسي؟!
وحيد حامد بين الإبداع الفني والإقصاء السياسي!!